• ×

جلاء الأزهري: أهدت أمي نظارة الزعيم لامرأة رأته في المنام

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية كنت أراقب عنقريب الجثمان وهو يتحرك لوحده بسبب اصطفاف الناس بالأيدي وهم واقفون لا يستطيعون الحركة من الزحام. وأنا أراقب، اختفى جثمان والدي؛ فصعدت إلى أعلى قمة منزلنا لأراه. لا يبدو أن المتحدثة وهي السيدة جلاء الأزهري البنت الوسطى للزعيم التاريخي إسماعيل الأزهري، احتاجت للصعود ثانية لترى جثمان والدها، فقد كبرت الطفلة ورأت أباها اسماً مبجلاً يتخذ عدة صورة مؤسطرة أكبر بكثير من صورة الجثمان الذي كان آخر ما رأته، وألفته يحظى بمكانة مرموقة في قلوب السودانيين.

في هذه المقابلة تستدعي جلاء الأزهري ذاكرة طفولتها لتكشف عن جوانب حياتية مهمة لرافع علم الاستقلال، رئيس وزراء السودان في الفترة 1954 1956 م ورئيس مجلس السيادة في الفترة 1965 1969.

* النشأة في بيت الزعيم الأزهري وطريقة الحياة؟

تربينا كباقي البيوت السودانية بصورة معتدلة ونشأنا في دار مليئة بجماهير الشعب السوداني.. ومعانا ضيوف دائما لدرجة ارتبطنا بها بصورة كبيرة وأصبحت جزءا أصيل من تكويننا، وغرست فينا حب الناس والتعامل معهم، لذلك منذ صغرنا شعرنا بدور ولو في مستوى خدمة الناس في البيت، وأذكر أنني كنت آخذ التمر وأقوم بتوزيعه على الضيوف في بيتنا.

كيف كان يقضي الزعيم الأزهري يومه؟

الزعيم الأزهري شخصية بسيطة، وعادي مثل بقية السودانيين، يصلي الفجر في جامع الشيخ الضرير ثم يعود إلى المنزل ويتناول الشاي مع نشرة الأخبار في إذاعة لندن، ثم يقوم بتغيير ملابسه ويبدأ في مقابلة المواطنين، إما مستمعا لأشخاص جدد أو رادا على آخرين كانوا قد قابلوه قبل ذلك، بالطبع كنت صغيرة لكن أعرف الأشياء من حولي، بعد ذلك يذهب إلى مكان عمله في القصر الجمهوري ثم يعود في حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر لتناول الغداء وأخذ قسط من الراحة، وفي العصر يبدأ في التحرك للمناسبات: الفواتح، الأفراح، ثم إلى دار الخريجين، وفي الغالب كنا لا نصحو على موعد عودته إلى البيت.

وأين نصيبكم من وقت الزعيم؟

في الفترة قبل خروجه من عصر كل يوم، وهي الفترة الوحيدة التي كنا نقابله فيها، ويطلع من خلالها على أحوالنا، وهي فترة بسيطة نحاول أن نكون موجودين بالقرب منه، لأنها لا تتكرر إلا في اليوم الثاني.

ما هي قصة الأسماء لبنات الأزهري؟

أسماؤنا جاءت كبقية أسماء البنات في البلد، وبالنسبة لشقيقتنا الكبيرة آمال، فهو قد ذكر سبب الاسم لإحدى الصحف، بأنها تعبر عن آمال وطموحات السودانيين، وأطلق عليها ست البنات على والدته، وبقيتنا هن: سامية، والتوأمتان سمية وسناء، واسمي أنا ارتبط بالجلاء، لأن يوم مولدي تزامن مع خروج آخر جندي للمستعمر الموافق (25 نوفمبر 1955)، ورسمت حروف جلاء بالطائرة في السماء، وعند خروج الأزهري من البيت، وكان يعلم أن مواعيد الولادة في نفس اليوم، لذلك قبل أن يخرج قال لأهل بيته إنه سيطلق على المولود الجديد اسم جلاء، لو كان بنتا أو ولدا، أما شقيقنا المرحوم محمد فاسمه في الشهادة إسماعيل الأزهري الكبير، ويرجع إلى السيد إسماعيل الأزهري السيد أحمد الأزهري السيد أحمد الشيخ إسماعيل الولي، وكانوا يسألونني دائما عندما كانت والدتي حبلى: ده منو؟ فكنت أقول لهم ده محمد .

هل كان الأزهري يواددكم بالأسماء؟

نعم، كان يقول: كيفنك يا ست الناس، وأهلا بست البنات.

حدثينا ماذا كان يأكل الأزهري؟

الزعيم إسماعيل الأزهري أكله وحياته بسيطتان، كحياة السودانيين. والموجود عندنا هو ما كان يوجد في بيوت السودانيين الذين كانوا يعيشون في مستويات متقاربة، وكان الأكل يغلب عليه الكسرة والملاح بجانب السلطة، وهو يفطر في الصباح مع كوب اللبن، ولا يأكل مرة أخرى إلا بعد عودته إلى البيت، وما تعلمناه منه هو الفطور قبل الخروج من البيت، ولا يطلب أشياء محددة، وما تبقى من الغداء يترك له كي يتعشى به، ودائما تضع له والدتنا الأكل في صحون بأغطيتها حتى تحافظ على دفئها، ولا أدري ما إذا كانت هذه الصحون موجودة أم لا.

متى يضحك الزعيم الأزهري ومتى يغضب؟

أنا لا أذكر له حالة غضب، لكنه كان شفوقا بصورة كبيرة، وهو دائم الابتسامة ويضحك بصوت عال وقهقهة، حتى أننا لو كنا نلعب في آخر البيت ونبتسم عند سماع نبرات ضحكته، وعندما يتحدث في التلفون أيضا، وكان يمتلك ذاكرة قوية تمكنه من التعرف على الأشخاص الذين يقابلهم ولو لمرة واحدة، ومن الأشياء التي تميز بها هي أنه كان مدرسا فيحفظ طلابه، ودائما ما يفاجئهم بأسمائهم كاملة، وهو بطبعه كان هاشا باشا، ورغم أنه كان الرئيس إلا أنه يفتح الباب بنفسه حين يكون ثمة طارق.

ما هي تأثيرات حياة بيت الزعيم على أبنائه؟

كما ذكرت لك سابقا، نحن تربينا في بيت محاط بالناس، وهو ما حبب لنا الآخرين، وإذا وجدنا أنفسنا لوحدنا يكون شيئا غريبا، وأنت وسط هذا الكم إما أن تتعلم أو تعلِّم، ولأننا محاطون بكبار كانت ثمة فائدة ونصائح عظيمة، وطوال الوقت كانت تصدر ناحيتنا عبارات: يابت ده صاح وده غلط، وهذا ما نفعنا وأصبحنا نشعر بأننا كأننا سياسيون في بيتنا.

هيا لنعرف خفايا اهتمامات الرئيس الأدبية، وهي ظاهرة في خطاباته الرسمية والجماهيرية..

أعتقد أنه ليس الرئيس الأزهري وحده من كان يملك الخطابة، إنما كل الجيل الذي كان معه في ذلك الوقت، كان جيلا بالغا في الفهم والقراءة والتعلم، لأن تعليمهم كان يختلف، حيث اعتمد على المناظرات والمنافسة، وقرأنا في التاريخ مثلا كانت هنالك مناظرات معروفة بين أبناء أب روف ومجموعة أخرى يديرون المناظرات، وهذا ما جعل ذلك الجيل مميزا، والتعليم في الخلوة وحفظ القرآن أيضا كان لهما أثر، والأزهري كان برنجي دفعته في كل سنواته التعليمية.

كيف كان ينظر الزعيم لطموحه المستقبلي؟

ربما طبيعة التعليم والتخصص في الرياضيات فتحت ذهنية الرئيس الأزهري للنظر في القضايا وفهم الأشياء بصورة أسرع من الآخرين، وحسب ما علمت أنه كان أحد ثلاثة سودانيين في جامعة بيروت في الثلاثينيات يحضرون للماجستير، وفي حفل التخرج سأل زميله عبيد الأمين عن أمنيته في المستقبل فجاء رده أنه سيتجه لفتح مدارس لتعليم السودانيين، وفعلا كانت مدارس عبيد الأمين بينما جاءت أمنية الرئيس الأزهري بإخراج الإنجليز من السودان.

لمن من المغنين كان يطرب الزعيم إسماعيل الأزهري؟

حسب ما أذكر أن الزعيم الأزهري كان يستمع إلى كل الأغنيات السودانية، وليس لديه فنان خاص، لكن الذي يشده للمذياع القرآن ومن ثم إلى أخبار إذاعة لندن، ومازالت لدينا ارتباط بالاستماع إلى هيئة الإذاعة البريطانية.

هل تذكرين أي أغنية كان يستمع لها الزعيم؟

التصور والذكرى دائما عن الاجتماعات أكثر من أي شيء آخر، لكنه كان مولعا بالأغنيات الوطنية.

أين كان يجتمع الرئيس الأزهري؟

الاجتماعات كانت تعقد في الناحية الغربية من المنزل دار الزعيم أو ما كنا نطلقه عليه قديما بحوش الرجال، وهو المكان الطبيعي لوجوده حتى عندما توسع المنزل.

من هم المقربون حول الرئيس في ذلك الوقت وكان حضورهم دائما معه في المنزل؟

طبعا لما توفي الزعيم أنا كنت في سن الثانية عشرة، وكنت أعي تماما، وحسب ما أذكر في الغالب يكون ضيوف الرئيس من أقاربه أو السكرتير عمنا الرفاعي نراه يوميا، ومعاونوه من السكرتير الأول والسكرتير الثاني، يحضرون إليه قبل الذهاب إلى القصر.

لماذا برأيك لم يسكن الرئيس الأزهري في منزل حكومي أو في القصر الجمهوري نفسه؟

الرئيس الأزهري لم يتحرك أو يسكن في أي بيت حكومي طوال فترة حكمه سواء في رئاسة مجلس الوزراء أو مجلس السيادة، لقناعة ظل يرددها دائما عندما يسأل: لماذا لا ترحل من هذا البيت باعتبار الصبغة الرسمية لك كرئيس؟، فكان يرد عليهم بقوله: مسكني هو قصري وداري في أم درمان المكان الذي أستريح فيه، ولا أستطيع أن أغيره، والقصر الجمهوري مكان عمل، ولم يرحل عندما كان رئيسا أو حتى عندما أصبح شخصا عاديا بلا تكليف.

ما هو الشيء الاستثنائي الذي لاحظتموه عشية تحقق الاستقلال ودلالات ما كان سيحدث؟

نحن كنا صغارا في السن لكن الحشود البشرية التي كانت تأتي إلى الدار والهتافات هي الراسخة في أذهاننا دائما، ما حدث أمر مهيب.. يأتي الشعب السوداني إلى دار الزعيم لمشاورته قائلين نعمل شنو؟ إنت رأيك شنو؟.

بخلافك أنت وشقيقك المرحوم محمد لم تنشط بقية أسرتكم في العمل السياسي كعادة الأسر السياسية؟

على العكس، أنا أعتقد أن جميع أفراد أسرتنا يمتلكون هذه الصفة السياسية، ولكن تختلف درجة النشاط على حسب الوضع، وباعتبارنا تربينا في بيت زعيم سياسي نعتقد أن المسار السياسي شيء طبيعي لنا جميعا.

وراء كل رجل عظيم امرأة.. ما هو دور السيدة مريم زوجة الزعيم في حياته؟

الحاجة مريم مصطفى سلامة هي صاحبة كل الدور في حياتنا وحياة الزعيم، لأنها بذلت جهدا غير منظور وفي هدوء.. التحضير والتجهيز والتخطيط وتهيئة المكان، حتى تربيتنا كانت تشرف عليها ولم تشكل هاجسا لزوجها حتى يتدخل، وكأنما هي الرئيسة في إدارة شؤون المنزل والأسرة الكبيرة، وكانت ملجأ للنسوة من كل الحي.

هل كانت تعد الطعام لزوجها؟

طبعا هي ماهرة في إعداد الطعام حتى للزعيم نفسه، لكن من زمن طويل كان بيت الأزهري فيه الطباخ وسائق العربة، وباعتبار مسؤولياتها الأخرى أصبحت لا تنحصر في إعداد الطعام في أماكن أخرى والزيارات الأسرية.

هل كنتم ترافقون الزعيم في زياراته الخارجية؟

لم يحدث أبدا أن رافقنا الزعيم في زياراته الخارجية، ولم نشارك معه في أي مناسبات رسمية خارجية، وبالذات الحاجة مريم، ما عدا سفرها برفقته للحج، وهذا كان شيئا طبيعيا، وإعلاميا حاجة مريم لم تكن لديها الرغبة في الظهور، بل تفضل الحضور في الاجتماعيات، ومرة واحدة سافرنا إلى أركويت في شرق السودان عن طريق عطبرة بالقطر في الإجازة.

ماذا ترك الوالد من مقتنيات؟

حتى ملابس الزعيم إسماعيل الأزهري وهبتها الحاجة لروحه، وليس لديه أي مقتنيات، وهو لم يترك لنا تركة مادية، إنما غرس فينا مبادئه وقيمه، وآخر ما كان يمتكله الزعيم بعد رحيله النظارة، وأهدتها الحاجة مريم لسيدة قالت إن زوجها رأى في حلمه الزعيم الأزهري، وطلبت منها أن تأخذ النظارة لزوجها الذي كان يعاني في ذلك الوقت من ضعف النظر.

تدور قصص كثيرة حول بيت الأزهري، كيف بنى الزعيم بيته؟

الطريقة التي بني بها البيت لم تكن سهلة، وأنا أذكر أن البناء يبدأ ويتوقف لسنة أو سنتين، حسب الظروف، ومنذ أن بدأ إلى أن انتهى أخذ قرابة ثماني أو تسع سنوات، وتخللت فترة البناء اعتقاله من قبل حكومة الرئيس الراحل إبراهيم عبود، وهذا ما أدى إلى تأخير تكملة المنزل.

أحكِ لنا قصة اعتقال الزعيم من منزله؟

نعم، أذكر الاعتقال الذي تم عقب انقلاب جعفر نميري، وكانت لدينا مناسبة في أسرتنا تخص عمتنا، وعقب عودة شقيقاتي في تمام الساعة العاشرة مساء لاحظن أن هناك دبابات عسكرية متحركة، وأخبرن الوالد بذلك فرد بقوله: خير، وواصل في نومه، ولما استيقظنا في صباح اليوم التالي وجدنا الدبابات تحيط بالمنزل؛ فأصابنا الخوف وأخبرنا الوالد فرد علينا بقوله ماتخافو مافي حاجة، ولمدة ثلاثة أيام لاحقة لم يسمح لأحد بالخروج من المنزل أو للآخرين بالدخول إلينا، وكان الرئيس موجودا في غرفته في الطابق الأعلى، بعد ذلك سمح لعدد من الجيران وأفراد أسرتنا بإدخال الطعام الذي كان قد نفد لحظتها من البيت.

هل طلبتم من السلطات أي مساعدة أو الرئيس دعا لذلك؟

لا، بل هم أرسلوا أحد الاشخاص لمعرفة متطلباتنا وما نحتاجه من أغراض، لكننا رفضنا مساعدته وكفتنا نفاجات بيوت أم درمان المعروفة من أي حاجة.

وبعد ذلك؟

في اليوم الثالث حضرت سيارات وأخذت الرئيس إسماعيل الأزهري إلى سجن كوبر حيث مكث في السجن ثلاثة أشهر وحدثت وفاة شقيقه علي الأزهري، فطلب من السلطات أن تسمح له بحضور العزاء، ولما حضر لوفاة شقيقه فاجأته نوبة فاستدعينا له الطبيب ونقل على أثرها إلى المستشفى حيث مكث هناك أسبوعا وتوفي بعدها، وهنا أذكر تحقق ما كان يطلقه بشأن علاقته بشقيقه الأزهري وثيق الصلة والود والمحبة معه، حيث كان يقول: الموت ذاتو بفرقنا من بعض أسبوع واحد

ماذا تذكرين من وفاة الزهري؟

كان يوما مهيبا عجيبا، لا أثر للأرض من مواطئ الأقدام ونحيب الرجال، أذكر أنني كنت لأوَّل مرة أرى رجالا ينتحبون بتلك الصورة، كنت أراقب أن عنقريب الجثمان كان يتحرك لوحده بسبب اصطفاف الناس بالأيدي فقط، بينما الناس واقفون ولا يستطيعون الحركة من الزحام، وأنا أراقب اختفى جثمان والدي فصعدت إلى أعلى قمة منزلنا لأراه!!

وعقب وفاته كيف كان رد فعل حكومة نميري؟

حضر فريق تفتيش لإخراج الذهب والفضة والمقتنيات الذهبية الثمينة من منزل الزعيم الأزهري كما كان يعتقد النظام العسكري وقتها، لكنهم لم يجدوا شيئا، فكتب الضابط المسؤول في تقريره وكان يدعي خالد: زرت منزل الأزهري ووجدته مثل سائر بيوت السودانيين، بعض مرواح وأثاث بسيط.

ماذا ترك لكم الأزهري من ورثة؟

قيم ومبادئ، لا عمارات ولا أموال.

اليوم التالي


بواسطة : admin
 0  0  1855
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 01:59 مساءً الثلاثاء 14 مايو 2024.