• ×

بروفيسور إبراهيم محمد آدم يكتب.. عبد الله الطيب وجريزلدا – موت دنيا

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الخرطوم/السودانية/ عبد الله الطيب وجريزلدا – موت دنيا

بروفيسور إبراهيم محمد آدم


لست ادري لماذا تذكرت رواية موت دنيا لمحمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد والتي قرأتها لآخر مرة قبل أكثر من عشرين عاماً، وتلك قصة تاريخية تكتب من خلال الرسائل التي هي إلى التاريخ الاجتماعي أقرب ففيها جوانب مختلفة من أنماط الحياة حينئذ في أسلوب أدبي رائع قل أن تفرق فيه بين ما كتبه محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد، ودائماً ما تهيج فينا ذكريات جياد، ربما من أسباب الربط ذلك الاهتمام المشترك بين جريزلدا أرملة الراحل المقيم البروفيسور عبد الله الطيب ( صار اسمها جوهرة بعد أسلامها ) القادمة من بلاد تموت من البرد حيتانها -كما يقول الراحل الطيب صالح – وعبد الله الطيب القادم من بلاد تسكن الشمس جدرانها ،بلد هو مهد لحضارة وادي النيل التي اختلطت بها في مرحلة لاحقة تأثيرات الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس من حيث الجغرافيا وظل تأثيرها ممتداً بوسيط لغة العالم الأولى اليوم الإنجليزية .
لا يمكنني الفصل أبداً بين البروفيسور عبد الله الطيب جريزلدا فمنهج بخت الرضا الأول الجميل كان إلينا نحن أبناء الريف أقرب ، ومن أجمل ما كان مقرراً علينا من قصائد كنا نردد شوينا السنبل النضر على الجمر على الجمر وهي من أشعار البروف، وقد كنا نعيشها واقعاً يتجدد سنوياً في موسم الدرت ونحن نشوي سنابل الذرة الناضجة حديثاً ونستمتع بالفريك، ذلك المنهج كان يتحدث عن دجاجنا وهو يلقط الحب ويجري والأرنب والفول والقطة الصغيرة المسماة سميرة وحسن والصفارة ومفردات ثرة تتجاوز اللغة العربية لتدخل حتى في منهج اللغة الانجليزية وهي تتناول ذات طبيعة الحياة في الريف من رعي الأغنام وإحضار العلف للحمار مساءاً ، ذلك الحمار الذي يدعونه اليوم مسبوقا بعبارة لا مؤاخذة والله قد وصفه في القرآن بأنه زينة تلك البيئة إذن عرفتنا بعبد الله الطيب، وعندما أقرأ مناهج أطفالي اليوم أجد ذلك غربة لأن ذلك الانتماء لا يكاد يبين، وان أنسى لا أنسى سؤال سأله إياي أحد الأطفال من حلتنا وقد كنت عائد لتوي من الخرطوم في أول زيارة لها – هل زرت منزل عبد الله الطيب، فقلت بكل صدق لا لأنني لم أفعل ، كان صديقي الصغير ببراءته تلك يعتقد أن الخرطوم مثل حلتنا يمكن أن تزور كل بيوتها مشياً على الأرجل، كما كنا أفعل حتى في مدن مثل سنجة الجميلة، ولكن سؤاله ذاك جسد لي مكانة عبد الله الطيب لدينا.
وربما كان مرد ذلك أن البروف قد دخل كل بيت من خلال أشعاره التي عرفها كل المهتمين بالشعر العربي في السودان والعالم وارتبطت بأذهانهم أكثر عند تأليفه لكتابه المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها وهو كتاب عمدة في الأدب العربي تحدث عنه بإعجاب كبير الدكتور طه حسين عميد الأدبي العربي، غير أن أهم برامجه المسموعة عبر الأثير برنامج دراسات في القرآن الكريم الذي كان يقدمه مع تلاوة للشيخ الراحل صديق أحمد حمدون وقد كان يقدمه بدارجة سودانية بسيطة قربت فهمه للأذهان، وكانت تلاوة الشيخ صديق أساساً لتلاوة كثيرين على ذات النسق .وعندما أهداني البروفيسور زكريا بشير إمام مدير جامعة جوبا سابقاً -وهو ذات الموقع الذي تقلده البروفيسور عبد الله الطيب لوقت قصير- سفره الخالد ( عبد الله الطيب ذلك البحر الزاخر) ازددت معرفةً بالبروفيسور عبد الله الطيب عبر جوانب كثيرة من حياته أحيل إليها كل من يرجو الاستزادة عبر ذاك الكتاب، ومما زاد من أهمية كتاب زكريا أنه قد صدر في ذات السنة التي أصيب فيها البروف بجلطة أقعدته لسنين أربعة ومات على إثرها، كانت لقاءاتي بالبروف قد بلغت من المرات أيضا أربعة وخامستها أخيرتها عندما زرته برفقة نفر كريم من إدارة جامعة جوبا حينها للاطمئنان على صحته بعد تعرضه لتلك الجلطة وكم تمنينا ان يعود منها سليماً معافى، وبسبب مشغوليات الحياة وقلة الحراك الثقافي لم التق جريزلدا- (جوهرة) في السنوات الأخيرة ، وللمصادفة كنت ذاهباً لزواج ابننا محمد نجل الصديق العزيز عبد الملك النعيم بدار الشرطة ببري، فلفتت نظري حرمنا إلى أن هناك حدث ما في دار الضيافة بجامعة الخرطوم وعندما وصلت دار الشرطة ببري أفادني الأخ الدكتور حسن مشيكه بالخبر الأليم – ماتت جريزلدا (جوهرة) ودفنت ببحري .
رحل عبد الله الطيب فواصلت المسيرة جريزلدا(جوهرة) التي بقيت معنا ستة وسبعين عاماً لم تفارق فيها السودان إلا مع زوجها وعندما سافر في رحلته الأبدية بقيت هي تدافع عن ارثه العلمي الزاخر وآثاره الأدبية والفنية والفكرية والثقافية وغيرها، فقد نذرت ما تبقى من حياتها بعد وفاته لسنوات قاربن العشرين وهي تحافظ على مقتنياته السمينة من المراجع والكتب التي أفنى فيها عمره مؤلفاً ومترجماً وقارئاً وشارحاً لها باللغتين العربية الفصحى والدارجة السودانية حتى يكون كلامه بليغاً وافعل في نفوس سامعيه، وهي تفعل ذلك لان بعض كتب البروف قد تعرضت للسرقة حتى في حياته مثل كتاب سمير التلميذ، وإن كان من وفاء لعبد الله الطيب من قبل السلطات الرسمية في الدولة أو المهتمين المقتدرين من أبناء السودان الأوفياء فهو تنفيذ وصية جريزلدا (جوهرة) بأن تطبع مؤلفاته التي لم تر النور وأن يعاد طبع ما صدر منها من قبل ونفذ من الأسواق.


بواسطة : admin
 0  0  376
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 10:01 صباحًا الجمعة 26 أبريل 2024.