• ×

الحبيب الاسود : نهاية البشير طوت صفحة الدكتاتورية تحت غطاء الدين

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية النهاية المدوية لنظام الرئيس السوداني عمر حسن البشير، أمس الخميس، طوت إلى الأبد صفحة من الدكتاتورية والاستبداد تحت غطاء الدين، وأكدت عظمة الشعب السوداني الذي اعتاد دائما على الإطاحة بالمستبدين، منذ أن قاد أول ثورة شعبية في أفريقيا والعالم العربي، وهي ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل الفريق إبراهيم عبود، ثم ثورة أبريل 1985 ضد نظام جعفر نميري، وأطلق العديد من الانتفاضات الشعبية من أبرزها انتفاضة 2013، والتي عاد ليستكملها في ديسمبر 2018 بالانتفاضة التي تحولت إلى ثورة حقيقية أتت أكلها أمس الخميس عندما قررت القوات المسلحة أن تنحاز إلى الجماهير المصرّة على إنهاء معاناة 30 عاما من الحكم الفاسد والتدمير الممنهج للدولة والمجتمع.

إعلان الجيش السوداني “اقتلاع رأس النظام السابق والتحفظ عليه في مكان آمن” جاء ليمثل زلزالا حقيقيا تحت أقدام قوى الإسلام السياسي في داخل البلاد وخارجها، نظرا لما كان يمثله نظام عمر حسن البشير من رمزية خاصة لدى الإخوان المسلمين، منذ أن فتحت الخرطوم أبوابها لاستقبال عناصر الجماعة المتجهين إليها من دول عدة، والذين كانوا يجدون فيها المأوى والملاذ وفرص الدراسة والتنظم وعقد الاجتماعات والحصول على الدعم المادي.

القاعدة في السودان
فتحت السودان في ظل حكم البشير، أبوابها لتنظيم القاعدة، حتى أن زعيمه أسامة بن لادن قضى فيها واحدة من أهم الفترات في حياته، استطاع خلالها مواصلة إعداد مقاتليه إعدادا عسكريا في مزارع كان يديرها في مناطق سودانية. كما أتاح له وجوده في هذه الدولة وعلاقته مع كبار المسؤولين فيها، البقاء قريبا من أحداث المنطقة، خصوصا في الخليج والقرن الأفريقي ومصر ودول المغرب العربي.

ووفق تقرير “المرصد الإسلامي” الصادر في العام 2011 فإن التوجه إلى السودان كان أحد الخيارات المطروحة أمام بن لادن، ليس لأنه سيكون قاعدة جديدة لمشروع جديد، ولكن لأنه سمع الكثير عن هذه الدولة التي بدأ الإسلاميون يتحدثون عن حماستها للإسلام والمسلمين، وحرصها على تطبيق مشروع إسلامي. وظن أنه يستطيع أن يقدم شيئا إلى هذه الدولة من خلال قدراته التجارية والإنشائية وعلاقاته في الخليج، فضلا عن أنها تؤمن له ملاذا بديلا عن أفغانستان.

ففي نهاية عام 1991 توجه بن لادن إلى السودان بطائرة خاصة وفي رحلة سرية اصطحب معه بعض رفاقه، في حين لحق به آخرون بطرق أخرى، وأحسنت الحكومة السودانية وفادته.

لكنه في تلك الفترة لم يكن بحاجة إلى أي دعم مادي لأن أمواله كانت لا تزال تحت سيطرته وتمكن بشكل طبيعي من نقل جزء من أرصدته ومعداته إلى السودان. لم يساهم في “أي عمل عسكري” في هذا البلد، لكنه ساهم بقوة في مشاريع طرق وإنشاءات ومزارع وغيرها، وكان أشهرها “طريق التحدي” من الخرطوم إلى بورتسودان.

وروى السوداني جمال أحمد الفضل في شهادته أمام محكمة مانهاتن الفيدرالية في نيويورك أن أسامة بن لادن، الذي قُدّرت ثروته بـ300 مليون دولار، أقام في السودان علاقات جيدة، أمنية وتجارية، مع حكومة الرئيس عمر البشير وزعيم الجبهة القومية الإسلامية الدكتور حسن الترابي قبل أن يفترقا.

وحول طريقة الانتقال من أفغانستان إلى السودان، قال الفضل إن قادة “القاعدة” بدأوا يدرسون جديا الانتقال إلى الخرطوم في 1990، بعدما رأوا الانقلاب على حكومتها المنتخبة بقيادة الصادق المهدي، وتولي إسلاميين على رأسهم الترابي السلطة بالتعاون مع قادة إسلاميين في القوات المسلحة، على رأسهم الفريق البشير. كان الانقلاب قد حصل قبل نحو سنة، نهاية يونيو 1989.

واشار الفضل إلى أنه سمع نقاشا في أحد معسكرات “القاعدة” بين أبي عبيدة العراقي وأيوب العراقي وأبي فضل العراقي وأبي أنيس السعودي وأبي حسن السوداني اسمه الحقيقي علي هارون، يدور حول “التغيير في الحكومة في السودان ومجيء الجبهة القومية الإسلامية إلى السلطة”، وكيف أن ذلك التغيير و”الانتقال إلى السودان سيكون أفضل للقاعدة لأننا سنكون قريبين إلى الدول العربية”. لكن بعض الحاضرين رد داعيا إلى الحذر وعدم التسرّع قبل معرفة حقيقة الحكومة الجديدة وسياستها.

ممر للقيادات الإخوانية
التجربة السودانية أثبتت فشل شعارات الإخوان المسلمين من شاكلة “الإسلام هو الحل”
كان الترابي قد شكل في العام 1986 ما سمي بالجبهة القومية الإسلامية، زاعما الخروج عن جماعة الإخوان بقيادة الشيخ صادق عبدالله عبدالماجد، غير أنه لم ينف أسلمة المجتمع وتأسيس حكم الشريعة الإسلامية في السودان.

ونجحت الجبهة في اختراق البرلمان والحكومة والجيش والمنظمات المحلية والإقليمية ومنظمات رعاية المرأة والشباب. وقامت أيضا بإنشاء منظمات الرعاية الخاصة بهم مثل شباب البناء ورائدات النهضة، ونظمت الحملات التعليمية لأسلمة المجتمع من خلال الدولة.

وفي نفس الوقت قامت بالسيطرة على مؤسسات إسلامية خيرية من أجل الترويج لأفكار الإسلاميين الذين استفادوا في ذلك من مشاركتهم للرئيس النميري من 1979 حتى 1985 في التمكين الاقتصادي والاجتماعي، كما تغلغلت الجبهة في المواقع الإدارية في البنوك الإسلامية الناشئة في السودان وأصبح أتباعها موظفين وإداريين فيها وأصبحت الممول الأساسي لمشاريعهم ليصبحوا قوة أثرت على سياسة وقانون ودولة ومجتمع السودان. ففازت بـ51 مقعدا في البرلمان السوداني وحلت في المركز الثالث بعد حزبي الأمة والاتحاد الديمقراطي ولكن الترابي لم يفز في هذه المرة أيضا.

بعد انقلاب 1989 على حكومة الصادق المهدي، قام الترابي بحل الجبهة ليتسنى له الانفراد بالسلطة، ولكنه فوجئ بعد عامين بالمعركة التي جدت بينه وبين شريكه في السلطة عمر البشير والتي نقلته إلى صف المعارضة، ليؤسس عام 1991 المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي ضم ممثلين من 45 دولة عربية وإسلامية، بينما أسس البشير حزب المؤتمر الوطني الذي اعتمد هو الآخر على مرجعية دينية إخوانية، واعتمد في قيادته على تلميذ الترابي الأكبر علي عثمان محمد طه.

لم يخرج البشير من عباءة الإخوان، وإنما كان يعتبر نفسه أحد رائدي الإسلام السياسي في المنطقة، وأدى إصراره على تطبيق الشريعة على الشعب بكل إثنياته وأعراقه وثقافاته، إلى أزمة سرعان ما انتهت بفصل الجنوب عن الشمال في استفتاء يناير 2011 الذي ساهمت في الدفع إليه أطراف عدة وخاصة الإدارة الأميركية مستعينة في ذلك بالنظام القطري.

وتحول السودان إلى ممر ومستقر للقيادات الإخوانية الفارة من بلدانها، بينما كان المراقبون يرون في نظام البشير النموذج الأكثر تعبيرا عن انتهازية الإسلام السياسي وقدرته على التكيف مع التحولات.

وكان الرئيس السوداني المعزول حليف إيران الأبرز في القرن الأفريقي قبل أن يتبرأ منها، وكان الحليف الموثوق به لدى الزعيم الليبي معمر القذافي قبل أن ينقلب عليه.

وكان البشير أبرز من هدد بإرسال جيش للإطاحة بنظام بشار الأسد قبل أن يزوره في دمشق، وبينما يدعم التحالف العربي في اليمن، يعتبر نفسه الحليف الأقوى للنظام التركي ورئيسه رجب طيب أردوغان، وللنظام القطري والمشروع الذي يتزعمه في المنطقة خاصة ضد دول مثل أريتريا أو ليبيا التي كان أحد أهم مغرقيها بالسلاح لدعم الميليشيات، وكذلك ضد مصر التي لا يزال المئات من عناصرها الإخوانية مقيمين تحت رعاية سلطات الخرطوم.

ويجمع المتابعون للشأن السوداني على أن نظام البشير المتأسلم عرف فصولا مريعة من السقوط الأخلاقي على كل الأصعدة، وفي هذا السياق يقول الكاتب السوداني بابكر فيصل بابكر إن “الفشل كان أكبر بكثير من النواحي السياسية والاقتصادية، وهنا جوهر المأساة.

حكم الفساد
عمر البشير فتح أبواب القرن الأفريقي لإيران في زمن أحمدي نجاد

يطرح مشروع الإخوان المسلمين موضوع القيم كأساس لجميع شعاراته، ومع ذلك يشهد السودانيون كيف صار الفساد ونهب مال الدولة فعلا عاديا في ظل الحكم الرسالي، إلى جانب الانتشار الواسع للمخدرات وغسيل الأموال وعصابات النهب، فضلا عن الارتفاع غير المسبوق لمعدل الإصابة بمرض الإيدز والاعتداءات الجنسية على الأطفال حتى داخل المساجد.

غير أن النتيجة المهمة في هذا الإطار تتمثل في أن التجربة السودانية أثبتت فشل شعارات الإخوان المسلمين من شاكلة ‘الإسلام هو الحل’ ودعوتهم إلى تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية باعتبار أنها ستجلب الحلول السحرية لجميع المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، وهذا هو الأمر الذي اعترف به حسن الترابي بعد فوات الأوان، حين قال إن ‘الحركات الإسلامية تريد إقامة دول إسلامية وتطبيق الشريعة ولكنها لا تعرف طريقة إقامة الدولة وشكلها. إن المشروع الإسلامي في الأغلب نظري لا علاقة له بالواقع′. وأضاف الترابي ‘يجب أن تأتي كل الحركات الإسلامية في عالمنا بالبرامج المفصلة في كل هموم الحياة، الآن هم مواجهون بالأسئلة الصعبة حول العلاقات الدولية وقضايا الديمقراطية ومعاش الناس، ليت الحركات الإسلامية تخرج من الشعارات المبهمة إلى تقديم مناهج مفصلة’”.

لكن كيف سيكون تأثير الإطاحة بنظام البشير الإخواني في المنطقة؟ يكاد يكون هناك إجماع على أن ما حدث يوم أمس الخميس يمثل ضربة قاصمة لظهر المشروع الإخواني، خصوصا وأن السودان في عهد المعزول كان منطلقا لتركيا وقطر في التجييش وتوجيه الدعم والمساعدة سواء لإخوان ليبيا أو مصر وتسليح الميليشيات الخارجة عن القانون والمرتبطة بتنظيم القاعدة داخل الأراضي الليبية وتوفير السند المالي واللوجستي لمختلف قوى الإسلام في الدول الأفريقية المجاورة مثل إثيوبيا وأفريقيا الوسطى وإريتريا والصومال.

الفشل كان أكبر بكثير من النواحي السياسية والاقتصادية. فمشروع الإخوان المسلمين يطرح موضوع القيم كأساس لجميع شعاراته، ومع ذلك يشهد السودانيون كيف صار الفساد فعلا عاديا

وكانت تقارير استخباراتية غربية، كشفت في عام 2016 أن السودان أصبح البوابة الجديدة لنقل الإرهابيين من العديد من دول العالم إلى تنظيم داعش الإرهابي في ليبيا، مشيرة إلى أن السودان أصبح يمثل المصدر الرئيسي للإرهابيين الذين ينضمون إلى تنظيم داعش، سواء من السودانيين الذين يعتنقون الأفكار المتطرفة، أو من خلال الهجرة غير الشرعية إلى ليبيا عبر السودان.

إن الإسلام السياسي فقد الكثير عندما خاب أمله في حكم مصر والتموقع في سوريا، وتراجع حضوره في تركيا وفق نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، ويواجه اليوم ضربات موجعة من قبل الجيش الوطني الليبي على عتبات طرابلس، قبل أن يخسر سندا كبيرا ومحوريا عندما أطاحت جماهير الشعب السوداني بنظام عمر البشير، ما يشير إلى أن موجته التي عتت قبل سنوات بدأت في التراجع والتضاؤل إيذانا بزوالها.
الحبيب الاسود
كاتب تونسي


بواسطة : admin
 0  0  1094
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 08:15 مساءً الإثنين 29 أبريل 2024.