• ×

ذكري رحيل السمح والزين ..بلدي يا حبوب ..سيد احمد الحردلو

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الخرطوم ـ السودانية (1)
في يوم صيفي مُجلّل بالحزن كان رحيل سيدي أحمد الحردلو في يونيو من عام 2012. رحل في موسم صيف والصيف كان أحب الفصول إليه. كنا في تونس وقد ضمتنا سفارة واحدة نجاهد قدر معرفتنا الدبلوماسية لأن يكون للسودان ذكر ومكان مقدر ليس في تلك العاصمة العربية وحدها بل أيضا لأن يكون للسودان دورا مميزاً في الجامعة العربية التي اختارت وقتذاك- 1979- أن تغادر عرينها القديم في القاهرة، وترحل على مضض إلى العاصمة التونسية. جاء السفير سيد أحمد عوناً لسفير السودان ومندوبها الدائم في الجامعة العربية السياسي النبيل الراحل موسى عوض بلال. كان الصيف شهر الثقافة والإبداع في تونس. عند الحردلو هو موسم القصائد الجميلة.

في مثل هذه الأيام من عام 2012 رحل صديقنا الصدوق والشاعر الرهيف الأحاسيس، إلى حيث يكون الخلود قصيدة أخيرة. إلى حيث علة البدن تغلب صاحبها فتذهب الروح وهي روح حردلو، قصيدة ترتفع إلى بارئها. تستروح بعد رحيل طويل ومعاناة مع العلل، فكأنها الثمن الذي تتخلص فيه روح المبدع من إسار البدن لتنطلق إلى دنياوات إبداعها..

رحل الجسد وارتفعت إلى بارئها روح شاعر ملأ الوطن أنفاسه بمحبته، حاضرٌ بيننا بروحهِ المُبدعةِ، وبسخاءِ قصائده التي سكنتْ وستسكن وجدانَ أبناءِ السُّودان، ما بقيَ هذا الوطن فينا وإنْ تداعتْ بعضُ أطرافهِ، شــامخاً وإن أضعفتْ النزاعات تماسكه واتحاده.
رحل سيد أحمد الحردلو شامي وفي نفسه شيءٌ من حتى على وطنه. .

( 2 )
كيفَ نَحكي عن الرَّاحل وسيرتُهُ الإبداعية ماثلةٌ في قصائدِهِ، وَسيرتُهُ الدبلوماسيّةُ يعرفها الناسُ خارجَ السُّودان وداخله، ثمَّ لا نحكي عَن مُعاناتهِ، أوْ لا نلتفتُ إلى مَظلوميته؟ نَعرفُ جميعُـنا أنّـهُ رَحلَ مُرهقاً بعذاباتِ البدَنِ وبجراحاتِ النّفسِ، وجراحاتُ النفسِ ومعاناتها أفدحُ أثرا.
كيفَ - وقد رحلَ إلى رِحابِ الله - نتجاوزُ عَن ذكرِ مراراته المعنوية وجلّها بفعلِ فاعلٍ، فلا نقفُ وقفةَ مُتعاطفٍ يَستخلص مِنها العبَرَ والدّروس، وَنمضي عَجلين، نستذكر أفضالهُ ومكرماتهِ وحُسنَ سَجاياهُ، وجميلَ سيرتِهِ في الدبلوماسيّة، وإبداعاتهِ في سـاحةِ الشِّعرِ العربيّ، الفصيح منهُ والعامّي الشعبي..؟

لا تَعجِـمَ الدبلوماسيّ فيما يعرف أهل المهنة إلا الشـدائد، ولا تُصـقـِلَ قُـدراتِ الشاعر على الإبداعِ عنده إلا المُعاناة وقلق الليالي الطوال. أنظر كيفَ واجَهَ الرّاحلُ وهوَ في أوَّل سنواته في الدبلوماسية يُدير الإعلامَ في سفارتِنا في لندن، بعضَ مِحنِ السياسة، إذْ بعدَ انقلاب عام 1971 الموءود، جيء بالرّاحلِ مِن لندن إلى الخرطوم، على وجهِ السّرعةِ للتحقيق معه، ثمّ زجّ به فورَ وصولهِ في الحراساتِ بحجّةِ أنّهُ ساعدَ في الإعلامِ عن قادةِ الانقلابيين وقد كانوا في لندن، وفشلَ الانقلاب قبلَ وصولهم إلى الخرطوم. غابَ عند أكثر القائمين على الأمور في تلكم الأشهر الكئيبة، اتزان العقل وفضيلة التروّي، فاستفحل التوتر وطغا الانفعال، فأحكم الأمنيون أصحاب اليد العليا بعد فشل انقلاب يوليو 1971، القبض على أقدار كل الوزارات ومؤسسات الدولة، يحاسبون الكبير قبل الصغير، والغافل قبلَ المتنبّه، وما أخذتهم رأفة بأحدٍ إلا من رحِمَ رب العالمين. وقف رجل سمح المقام عليم بأقدار الرجال والمبدعين هو الراحل عمر حاج موسى فسعى وأنهى معاناة الشاعر الراحل بحسن تصرف وحكمة.

بدا الأمر وقتذاك وكأن وزارتُهُ لمْ ترَ ما حققَ الرّاحلُ مِن اختراقاتٍ في السّاحةِ الإعلاميةِ العصيّةِ في لندن، وهو يدير الإعلام في سفارة بلاده هناك، ولا سمعوا بإبداعهِ يفتحَ آفاقاً للأدبِ السوداني وللشِّعر السّوداني في زمانٍ لا يرى فيهِ كثيرون مِن حولنا في العالمِ العربي، أنّ في السودان شعراً عربياً، وقبلَ ذلك لساناً عربياً يمكن أن يكونَ مُبينا.

( 3 )
دعوني أمرّ مروراً عجلاً على هذهِ المُنغصاتِ التي واجهها الرَّاحلُ الحردلو في مسيرهِ الدبلوماسيّ، ولكن لا يفوتني أن أحكي كيفَ - وهو السفيرُ الناجحُ في اليمن- لم يفلتَ مِن أسيافِ الإحالةِ للصالحِ العام قبلَ انقضاءِ عام 1989بقليل. كانَ يعُدّ العـدّة ويرتّب للقدوم إلى الخرطــوم ليتسلّم أوراقَ اعتماده ســفيراً للسُّودان مُرشـّــحاً لجمهورية رومانيا، وذلكَ قبلَ أنْ تتحلّل وتتفتت بلدان أوروبا الشرقية، وقد صار حالها مثلَ حالنا الآن، نكظم أسىً على انفصالٍ صاغتهُ أيدينا، وخرجت دولة الجنوب الجديدة عن "سودانها" الكبير، مثلما خرجت حواء من ضلع آدم في القصص الديني.

قالَ الرَّاحل الحردلو يودّع صنعاء بعد أنْ قضى أعواماً فيها: "أنتم الناس أيها اليمانون"، ولمّا عرفوا أنهُ لم يعُد سفيراً، وأنهُ أحيلَ للصالحِ العام بلا أدنى مبرراتٍ أو محاسبةٍ أو إدانة، كرَّمهُ "اليمانون" بأنْ فتحوا أبواب بلادهم وقبلها صدورهم، فأقام عزيزاً فيها، مواطناً يمنياً بهويةٍ دبلوماسية يمنية، وكثيرون من أهلنا هناك ومنذ سنوات طويلة، هم سفراء في بلدهم اليمن وإن لمْ يحملوا جوازات سفرٍ يمانية.

حينَ طرأتْ ظروفٌ وهو في صنعاء، وغادرتْ أسرتُهُ إلى الخرطوم، تفتّق ذهنُ المنغّصين وصُنّاع المتاعبِ عَن فكرةٍ لمعاقبةِ السفيرِ المقيم في ملاذه الآمن باليمن، إذ منعوا أسرتَهُ مِن الخروجِ عبر المطارات السودانية والعودة إلى صنعاء، وعومل أفرادها فيما بلغني، معاملة المُجرمين المُلاحقين الفارين من البلاد. ما أفلحوا في السّفرِ إلا بعد وساطات. تلك بداية إيلامِ الجُرحِ القديم .

( 4)
تكالبتْ على الرّاحل العللُ وأمراضُ الجَسدِ وتعرَّض بعدَها لمِحَنٍ واختباراتٍ كثيرة. تلكَ أيامٌ عصيبة، تبيّنَ للرَّاحلِ فيها مَنْ رعى الودّ معه ومَن جافاه وأنكر جمائله. عرف الشاعر السفير مَن وقفَ معهُ، ومَنْ جلسَ وأعطاهُ ظهرَه، فيما الإحباطُ العامُ يُزيدَ من العِللِ ويُضعِفَ البدنَ. برغمِ الإحَن والمِحَن، ما رفع الرّاحل لساناً يلجم من لاكوا سيرته بغيرِ حقٍ، وَمَن ظلموه ورموه بباطلٍ، وهُم لا يعرفونَهُ. أحزنهُ وهوَ بعلّتِهِ في سكنهِ في قلبِ الخرطوم، أنَّها صارتْ عاصمةً للثقافةِ عام 2005، ومَا تذكّر مُنظمو تلك المِهرجانات، شاعراً مجيداً سكن الوجدان أسمُهُ سيد أحمد الحردلو، تعرفهُ مهرجانات الشِّعر في العراقِ وفي لبنانَ وفي القاهرةِ، ولم تتعرف إليه الخرطوم وهي عروس الثقافة العربية ذلك العام. كان جرحاً ممضاً، ولكنَّ الرَّاحلَ كتبَ مقالاً رصيناً بعد انقضاءِ عام الثقافةِ، قال فيه بصوتٍ عالٍ: < إنّي أنـا الشـاعر>، فسكتَ مُنظمو مِهرجانات عاصمة الثقافة، وحاروا جوابا.

( 5 )
في كلِّ ذلك الإجهادِ، وفي كلِّ تلك المِحَنِ، لا تفتُر روحُ الشّعر عن محبّة الوطن. ذهبت قصائده تسلك سبيلها الممهّد إلى وجدان الناس.
تعرفون قصائده الرصينة باللغةِ العربيةِ منذ صدور ديوانه الشعري الأول "غداً نلتقي" في عام 1960 من القاهرة، وقتَ أن كان النشرُ عزيزاً جدا، وتعرفون بعد ذلك قصائده التي اقترب فيها إلى وجدان الناس وإلى قلب الوطن :
"طبل العز ضرب" "سودانية يا أعظم ناس" "تقولي لي شنو؟" "بلدي يا حبّوب"، والأخيرة صارتْ، بعد أن مَوْسقها الرَّاحل مُحمد وردي، صِنوَ النشيدِ الوطنيِّ، تحفظها الأجيالُ، جيلاً بعد جيل . .

( 6 )
ليسَ كُلّ السفراءِ شُعراءَ وَلا كُل الشعراءِ سفراءَ، لكن الرّاحل سيد أحمد الحردلو شامي، حملَ أوراقَ اعتمادهِ مِن بَعضِ قوافيهِ، فكانَ ســفيراً إلى وجدان شعبه، إذ منهُ استلهمَ الوفاءَ والشِّعرَ وحُبَّ الوَطنِ، قبل أن يحمل أوراق اعتماده إلى الشعوب والبلدان الأخرى.
افتحوا حقيبتَهُ الدّبلوماسيّة لن تجدوا إلا .. جلابية وتوب..
نـَمْ هانئاً أيُّها الرَّاحل العظيم، فأنتَ مُقيمٌ في وِجدانِ شعبٍ أحبّكَ، ووَطنٍ سكن جوانحك،
تقبلك اللهُ مع الشهداء والصَّالحين وحسُنَ أولئك رفيقا..
جمَال مُحمّد إبراهيْم



بواسطة : admin
 0  0  1691
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 07:10 صباحًا السبت 4 مايو 2024.