• ×

حتي إشعار آخر .. شركات الاتصالات في دائرة الاتهام

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية تحقيق: علي ميرغني

مدخل
هل فعلاً أن شركات الاتصالات تساهم بصورة أو أخرى في تدمير الاقتصاد السوداني؟ ظل السؤال هذا يراودني كثيراً، خاصة أنها تحقق أرباحاً كثيرة وهي شركات بها مستثمرون أجانب لابد أن يحولوا جزء من أرباحهم في شكل عملات صعبة إلى خارج البلاد.
زاد من هواجسي قرار جهاز تنظيم الاتصالات والبريد ـ الهيئة القومية للاتصالات سابقاً ـ بوضع سقف لتحويل الرصيد في خطوة لتحجيم تداول الأموال عبر تحويل الرصيد..
ثم التسريبات الأخيرة عن قرار من بنك السوداني المركزي بوضع خمسين جنيهاً، سقفاً أعلى لتحويل الرصيد مع إجراءات أخرى.. ورغم أنه نفى هذا القرار، لكن يمكن قراءة هذه الخطوات باعتبارها مؤشراً على وجود العلة وليس حلاً لها.

مدخل ثاني
جهاز تنظيم الاتصالات والبريد
وهو الاسم الجديد لهيئة الاتصالات وهي الجهة الرقابية على قطاع الاتصالات والبريد. ذهبت إلى مقرهم ببرج الاتصالات وطرحت عليهم عدة أسئلة. لكن أولاً لابد من توضيح بعض المعلومات الفنية المتعلقة بهذه القضية.

أنواع الأرصدة
هناك ثلاثة أنواع من الأرصدة هي، رصيد تم بيعه للعميل وتم استهلاكه، ورصيد تم بيعه للعميل ولم يستهلكه بعد، ورصيد موجود في مخازن الشركة المشغلة في شكل كروت شحن. ويرى جهاز تنظيم الاتصالات والبريد أن مشغلي الهاتف يتحسَّبون كثيراً للأرصدة التي تم شراؤها لكن لا تزال يحتفظ بها العملاء في شكل رصيد بهواتفهم، وقلق الشركة يرجع إلى الخوف من حدوث إغراق للشبكة بالمكالمات أو البيانات بصورة تفوق سعة شبكة الشركة المشغلة.

إلزام قانوني

يقول إستاذ نبيل أديب المحامي، أن الشركات المشغلة للهاتف بالبلاد ملزمة قانوناً برد الرصيد غير المستعمل حال إنهاء خدماتها بالبلاد. إلا أن واقع الحال يستبعد أنهاء هذه الشركا لخدماتها بالسودان لجهة أنها أنفقت عشرات ملايين الدولارات بإكمال البني التحتية من خطوط فايبر وأبراج وبقية المعدات الأخرى.

شرائح تحوَّلت لخزن أموال
وبحسب خبر نشر في صحف الخرطوم قبل عدة أشهر، هناك شرائح بها رصيد يبلغ أكثر من عشرة مليون جنيه (مليار بالقديم). ويفسِّر الخبراء أن صاحب الشريحة يستخدمها كخزنة لحفظ أمواله، ورجحوا أن يكون صاحبها أحد (الدهّابة) أو المعدِّنين التقليديين.

أموال مهدرة
سألت جهاز تنظيم الاتصالات والبريد عن أن كان لهم معلومات عن حجم الكتلة النقدية بالجنيه السوداني، التي يتم تداولها أو تخزينها في شرائح الاتصالات. قالوا إن هذه المعلومات سرية لكنهم تفضَّلوا بمنحى مؤشرات يمكن الاستدلال بها لتقدير كتلة النقد السوداني المُّخّزن في شكل رصيد في الشرائح.

أرقام مفزعة
يقول جهاز تنظيم الاتصالات والبريد، إن هناك أكثر من 29مليوناً، مستخدماً للهاتف في السودان. وأن الدراسات التي أجراها الجهاز خلص إلى أن 90% من هؤلاء يحتفظون برصيد يتراوح بين جنيهين إلى خمسمائة جنيه، في شرائحهم. بينما العشرة في المائة المتبقون يحتفظون بمبالغ أكثر من خمسمائة جنيه.
اختلال المعيّار
ومن الأفضل هنا قبل أن نحاول تحليل هذه البيانات أن ندقق أكثر في تقسيم الدراسة لنطاق العينات، والسؤال هنا هل من المنطقي أن نجعل نطاق به تسعين بالمائة من العينات ثم يكون الفارق من جنيهين وحتى خمسمائة جنيه؟
ولتتضح الصورة نجد هذه العينة تضم 90% من 29مليون عميل، يعني 26.1مليون عميل. بينما يتراوح نطاق الرصيد من جنيهين إلى 500جنيه، يعني أكثر من 480احتمال، لذا يرتفع احتمال الوصول لنتائج خاطئة بسبب اتساع نطاق المتغيِّرات هنا.
لكن لنتجاوز هذه النقطة ونحاول تقدير كتلة النقود المحلية التي ذهبت إلى الشركات المشغلة في شكل رصيد يتم تسييله في عملية تحويل نقود.
ولنركز على العشرة بالمائة الذين بحسب دراسات جهاز تنظيمالاتصالات والبريد يشكلون الشريحة التي تملك أرصدة أكثر من خمسمائة جنيه، وتصل إلى عشرات ملايين الجنيهات بحسب بعض الأخبار التي تحدثت عن وجود رصيد بشريحة واحدة بلغ ثلاثة عشر مليون جنيه، "مليار بالقديم".
وبعملية حسابية بسيطة نجد أن العشرة بالمائة من مستخدمي الهاتف التسعة وعشرين مليون، يبلغ عددهم (2.9) مليون شخص. يملك أقلهم أكثر من خمسمائة جنيه، فيما يملك بعضهم عدة ملايين.
وإذا افترضنا أن خمسة بالمائة من هؤلاء الـ(145)مشتركاً،يملكون رصيد يصل إلى مليار نجد أنهم دفعوا 145مليار جنيه، سوداني "بالقديم 145ترليونجنيه سوداني، للشركات المشغلة للهاتف بالبلاد في شكل رصيد لن يستخدموه في المكالمات أو الحصول على الانترنت. بل لتحويل الأموال محليًا.

فلاش باك
وهنا لابد من الرجوع لإفادات جهاز تنظيمالاتصالات والبريد عن التبعات السالبة للاحتفاظ بالرصيد في الهواتف. خاصة فيما يتعلق بالشركات المشغلة.التي يقول الجهاز إنها تتأثر سلباً بسبب إمكانية حدوث إغراق للشبكات بمكالمات أكبر من سعتها. وهو أمر نظري لدرجة بعيدة لجهة أن ارتفاع حجم تبادل المكالمات أو البيانات لا يرتبط بالمتوفر من المال بقدر ما يرتبط بالأسعار والحاجة لإجراء مكالمات أو نقل بيانات. كما أن تكرار شكاوى عملاء الشركات المشغلة من سوء وبطء الشبكات يدحض لدرجة بعيدة فرضية أن الشركات تقلق من إمكانية حدوث إغراق لشبكاتها.

التأثير على الاقتصاد
هناك أربع شركات، تقدِّم خدمات الهاتف النقال مكالمات وبيانات، إلا أن واحدة منها لا تقدم خدمة بيع الرصيد. اثنتان من هذه الشركات بها شركاء أجانب، هذا يعني حتمية تحويل جزء من أرباحها للخارج، وهذا من حق أي مستثمر وقانون الاستثمار يدعم ذلك.
لكن السؤال هنا كيف تتعامل الشركات مع الأرصدة المخّزنة في هواتف عملائها ويبلغ مجملها عدة مليارات؟ هل تعتبرها أرباح وتحوِّلها للخارج؟ بل أليس يعتبر وكأن الشعب السوداني يوفر تمويلاً لهذه الشركات بلا مقابل؟ بل أليس هذه الشركات تمارس خدمات مصرفية؟
وإجابة على السؤال الأخير قال جهاز تنظيمالاتصالات والبريد إن قانون جهاز تنظيمالاتصالات والبريد للعام 2018نص على أن يستخدم الرصيد بصورة حصرية على الاستمتاع بخدمات الاتصالات والبيانات.
ويقول أستاذ نبيل أديب المحامي، إن تحويل الرصيد عبارة عن حوالة حق تتم بين دائنين وليست خدمة مصرفية.
إلا أن الأستاذ أحمد موسى عمر المحامي، يرى أنها ممارسة خارج القانون وأن الشركات المشغلة تشارك فيها بالعون. وأن تحويل الأرصدة إلى نقد عمل من أعمال الصيرفة المسموح به للمصارف فقط وبعض شركات تحويل الأموال في حدود. وعملية تحويل الأرصدة هي أقرب لشركات تحويل الأموال.. وبرغم ماتقدمه من خدمات للمحتاجين لوسيلة سهلة ومتاحة لانتقال العملة إلا أنها تؤثر في الاقتصاد في تحرُّك كتلة نقدية هائلة عبر الهواتف النقالة يصعب معها تتبعها ورصدها لذلك هي مخالفة قانونية.

لماذا الآن؟
كانت مصلحة البوستة والبريد والهاتف توفر للمواطنين السودانيين خدمة تحويل النقود بغض النظر عن حجمها وبأسعار معقولة، لكن بحلها انعدمت هذه الخدمة رغم ظروف بلادنا تتطلب هذه الخدمة لجهة عدم توفر الخدمات المصرفية إلا في المدن الكبرى.
هذا الوضع دفع المواطنين للاستفادة من خدمة تحويل الرصيد لتحويل الأموال محلياً.
لكن يبقى السؤال لماذا برز ملف تحويل الرصيد الآن؟ يلاحظ أن ذلك تزامن مع الأزمة الاقتصادية الحالية ومشكلة شح السيولة. والمنطق يفترض السؤال عن لماذا لم يفطن جهاز تنظيمالاتصالات والبريد لهذه الممارسة التي أخلت بالاقتصاد؟ أليس الجهاز جهة رقابية مناط به رقابة قطاع الاتصالات للحفاظ على مصلحة الشركات والعملاء بدون الأضرار بالاقتصاد أو البلاد؟

رقابة سياسية وليست قانونية
يرى أستاذ نبيل المحامي، أنه بصفة عامة الجهات الرقابية مسؤوليتها سياسية وليست قضائية. لكن يظل السؤال قائماً أين كان جهاز تنظيمالاتصالات والبريد طوال فترة استخدام تحويل الرصيد لتحويل الأموال؟

ماهو البديل؟
ظروف السودان وضعف البني التحتية المتعلقة بالتحويل الإلكتروني وعدم انتشار فروع المصارف كل هذه الظروف تحتم توفر طريقة ما لتحويل الأموال بسهولة بعيداً عن تعقيدات العمليات المصرفية. ومعلوم بالضرورة أن توفر الطلب يعني توفر السوق، إذن إذا لم يتم توفير وسيلة لتحويل النقود فإن المحتاجين لهذه الخدمة سيجدون وسائل أخرى بغض النظر عن مدى قانونية هذه الوسائل.
تجارب من حولنا
يقول الكاتب السوداني سالم بشير، إن يوغندا لها ظروف شبيهة بظروفنا لذلك أنشأت نظاماً يسمح لمشغلي الهاتف بتحويل المال عبر تحويل الرصيد.. ومسموح بتحويل ما مجملة 1500دولار، مقابل رسوم تنخفض بصورة عكسية مع ارتفاع كمية المبلغ المراد تحويله.
لكن القانون اليوغندي يلزم شركة الاتصالات بالتفريق بين الرصيد المخصص للمكالمات والانترنت، والرصيد المخصص لتحويل الأموال. وحالياً أعلنت يوغندا عن توقف تحويل الرصيد عبر كروت الشحن -قريباً- في خطوات لتحسين قطاع الاتصالات.
بينما نجد أن الإمارات العربية أعلنت في مطلع العام 2011عن أن خدمة تحويل الأموال من الإمارات إلى 48دولة، عبر الهواتف المتحرِّكة، ستدخل حيز التنفيذ بحلول يونيو، من ذات العام، بعد القيام بالتجهيزات الفنية اللازمة لذلك.
وأوضحت على هامش توقيع اتفاقية بين «اتصالات»، وشركة «ويسترن يونيون» لتحويل الأموال، لطرح الخدمة عبر الهاتف المتحرِّك في 18دولة، تدير فيها «اتصالات» عملياتها، أن بإمكان مشتركي «اتصالات» إرسال وتسلم حوالات مالية عبر «ويسترن يونيون»، باستخدام المحفظة المتنقلة، أو الحساب المربوط مع الهاتف

وفي الأردن سمحت الجهات المختصة لإحدى شركات الاتصالات بتحويل الأموال عن طريق الهاتف لكن -أيضاً- بعيداً عن الأرصدة المخصصة لاستخدامها في تكلفة المكالمات والبيانات.

حتى إشعار آخر
لا زال المواطن السوداني يحتاج لوسيلة تحويل الأموال محلياً لمقابلة ظروف طارئة أو معتادة. ولا تزال الخدمات المصرفية لا توفر هذه الخدمات، بالتالي سيظل تحويل الرصيد وسيلة لا بديل لها بغض النظر عن الآثار المدمرة للاقتصاد السوداني. وفي الجانب الآخر لا تزال الجهات المختصة تبحث عن حلول لا توفر وسيلة لتحويل الأموال داخلياً رغم حاجة السودانيين لها.
هذا الوضع يشير لحتمية تحايل طالبي خدمة تحويل الأموال على أي ضوابط قد تضعها الجهات المختصة. ويستمر نزيف الدولارات عبر الأموال التي يضخها السودانيون لشراء الرصيد لاستخدامه في تحويل الأموال داخلياً، وقطع هي عائدات تحصل عليها مشغلي الاتصالات الكبار بدون مقابل ملموس، وربما تكون أشبه بالمائة دولار الوهمية التي أورد قصتها كارل ماركس..
ومن التجارب التي حولنا والطلب على خدمة تحويل الأموال عبر الرصيد اقترح الاستهداء بالأنموذج اليوغندي والأردني بفصل رصيد المكالمات والانترنت عن الرصيد المخصص لتحويل الأموال. وأرى أن محاولات إيجاد حلول عبر تحجيم سقف التحويل اليومي أو لكل شريحة لن يحل مشكلة فكلما أنبت الدهر قناة ركب عليها الإنسان سناناً.
وإلى إشعار آخر يظل تحويل الأموال عن طريق الرصيد يمثل نزيفاً للعملة السودانية وأحد عوامل هدم اقتصادنا.


بواسطة : admin
 0  0  1873
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 03:52 صباحًا الإثنين 20 مايو 2024.