• ×

عودة الي الوطن ..هنا تنسي كل شئ لأن "الوجعستان" من كوكب آخر

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية محمد المرتضى حامد

لدى هبوط الطائرة على مدرج ذلك المسمى مطاراً، منيت النفس بعطلة تعيد لها توازنها الذي هتكته صروف الدهر ورزاياه، فكل ما يدور حولك بين الصحو والمنام يهد الحيل، فيغدو الخاطر كقطع بلور مكسور يدمي روحك كلما حاولت لملمته في زمن عز فيه الحب والحبيب. أحداث تترى وتنُذُر بقرب قيام الساعة أصابتنا برهاب مهجّن، يضيف إلى مأساتك الخاصة ما فعله بالوطن أولئك الذين قيض لهم تولي أمرنا في زمن الكوليرا المشبوه هذا.

تطل من النافذة فتعرف أنك في مطار لبلد إستثنائي، مطار ليس ككل المطارات، يغيب عن ساحته أي ناقل معروف من تلك الأسماء التي زيَّنته قبل نصف قرن أو يزيد ، فقد حلت محل اللوفتهانزا والبريتيش منذ أن كانت BOAC، والملكيه الهولندية والسويسرية والفرنسية وغيرها، طائرات تحمل أسماءا تناسبها تماما، تقف كيفما اتفق، لا تتخطى طموحاتها ارتفاعات نوارس البحر وأعلى سقف أحلامها مطارات الجوار، تقف إلى جوارها طائرات ال UN كزبون مستدام، وهذه الأخيرة لا تكثر إلا في بلاد دخلت غرف الإنعاش.

قبل توقف الطائر (الميمون) انتصب نصف المسافرين على أرجلهم لينتزعوا حقائبهم ووقارهم وجهلهم من أرفف الطائرة يشجعهم في سلوكهم ذاك عويل أطفال في تناوب كورالي لم ينقطع طوال رحلة العذاب مع صياح الزوجات بأن يتم إنزال حقائبهن أولا فتشعر لوهلة أنك ضمن مشهد في أحد الأفلام المملة. نساء أعددن للسفر عدته من حناء ومصوغات ذهبية مختلفة الأحجام والأوزان فتغدو الواحدة منهن كفترينة متحركة تستهدف من مظهرها إثبات الحالة الإغترابية لمن يهمهن الأمر في الوطن المهزوم شبرا شبرا، وسبب حشد تلك المصوغات مع الإسراف في الماكياج قد يكون توكيدا للمقولة القديمة:
Women dress to please men and displease women.

ما علينا، الرجال يعملون في إصرار غريب على انتزاع الحقائب عن الأرفف حيث لم تحل صيحات المضيفات المستنكرة الغاضبة أن يبقوا على مقاعدهم ريثما تتوقف الطائرة، فتقرأ في ملامح المضيفة ما يتردد في داخلها بكل وضوح فهي قد عوقبت سلفا باختيارها لهذه الرحلة.

لا أظنني أضيف جديداً إذا قلت أننا هبطنا في أسوأ مطار في العالم بدءاً من حافلة نقلتنا إلى المبنى الذي يبدأ بمدخل خَرِب يذكرك ببرقة ثهمد طرفة بن العبد، مستدعياً البكاء على الطلول، وليس انتهاءا بما يجري في الداخل. يقف على جانبي المدخل أناس يرتدون ملابس مدنية بلون اللامبالاة يبحلقون في وجوه القادمين ولا تدري من هم، يحتفظون بقسمات غير مرحبة وغير مريحة، تتجاوزهم وتدلف إلى صالة وصول أقرب إلى أن تكون مخزناً كبيراً للأسى أو مغارة ورد وصفها في رواية لأغاثا كريستي، لكن دعنا نتفق أنها أقرب ما تكون فرناً لحرق النفايات. مبنى يخلو من أدنى متطلبات المرفق العام، سيما إذا كان ذلك المرفق هو ثغر البلد وواجهته ونافذته التي يطل منها على العالم. لا تتوفر في ذلك المبنى الكئيب أدنى مظاهر المطارات التي نعرف ولا نعرف، هو في الواقع أقرب ما يكون إلى (الجملونات) المهجورة التي يتم فيها تبادل المخدرات بالمال بين العصابات في أفلام الآكشن الهوليودية.

يستقبلك العاملون في الجوازات ولسان حالهم يقول: على رسلك يا عبدالله، فبينك وبين الخروج (تستطيل حوائط ليل وينهض ألف باب)، يضعون الأختام في جوازك في أدب وهدوء وعلى بعد مترين منهم تلتقيك طاولة أخرى عليها نفر يفحصون نفس الجواز يجاورهم جهاز فحص بالأشعة (سكانر) يتيم يفحص حقائب القادمين، جهاز واحد لا شريك له، تتساءل سراً مع محمود درويش: هل مر المحارب من هنا؟.

تغادر أولئك الموظفين الطيبين الذين خلت وجوههم من أي مشروع ابتسامه مرحبة وتتجه إلى حيث انتظار الحقائب وهنا الجزء المقيت في كل مراحل السفر .. هنا تعرف جيداً ماذا كان وعد سليمان للهدهد. تدخل إلى صالة يقف فيها ألف منكوب حتى تصل إلى (السير) الناقل للحقائب، تسعى للحصول على عربة تحمل عليها الحقائب المتوقعة، وهذه كالعنقاء والخل الوفي، تسأل أحد المحظوظين عن مصدر التي حازها فيفيدك أن عليك جلبها من خارج المطار فتعمل بنصحه وتخرج إلى ساحة كأنها غشاها طيران التحالف، لا تعرف أين تجد مبتغاك، تفرح حد النشوة حين تجد واحدة في منطقة مظلمة بين السيارات والركام لكن ثِق أنها لن تكون في حال تؤدي معه وظيفتها سيما بعد تحميلها بالحقائب فمعظمها، على ما يبدو، صنع محلياً ورغم ذلك تؤوب إلى صالة الوصول بالغنيمة في إيفوريا بائنة بحصولك على تلك الرولز رويس.

تنتظر بصبر أيوبي خراساني الملمس تحرك (سير العفش) المهترئ، نعم، (حزام متحرك) أظنه، وليس كل الظن إثم، صنع من بقايا إطارات سيارات قديمه أو شئ نحو ذلك ، يتقافز عليه الأطفال لأنهم بحسهم الغريزي والمكتسب ولا مبالاة ذويهم عرفوا أنه، كوعد عرقوب، لن يتحرك قريباً وأنه سيبقى ساكناً لساعات طوال كأحلام المخدرين، حزام يتخذه بعض من أنهكهم السفر الطويل مجلساً ومتكأ وهو ليس بأفضل حال منهم حتى أنك لا تدري من منهم يتكئ على الآخر.

صالة الوصول مبنى بإضاءة خافتة – لزوم الرومانسيه – إضاءة لا تكفي للتعرف على من حولك لكنها كافية لتكشف عيون الحبيبة وعمق الوجع المقيم فيها. هنا عليك بالصبر والدعاء، عليك أن تنسى كل ما يتصل بالذوق والجمال في حدوده الدنيا وأن تنسى إنسانيتك واحتياجاتك الطبيعية، فمسألة المراحيض، على سبيل المثال، شئ آخر، والأفضل ألا تزرها كي تحتفظ في جوفك بمحتوياته رغم أنها تعلن عن نفسها بسبب رائحتها (النفاثة) النفاذة.

تقف إلى جانب حزام الحقائب لما يزيد على الساعة بانتظار أن تُبَث فيه الروح، لحظات كفيلة بتبديد ألف ميجاوات من الحنين للأهل والصحاب والتراب، شعور مصحوب بوجل من تلاشي حنين مزمن تمليه قوى خفية تمسك بتلابيب الخاطر و (تقبقب) الروح حتى تحار في ماهية ما تقمصك وأنت تمر بذات الوجع في كل مرة. شعور متناقض يجتاحك ثم ينحسر مد إحساسك الطيب تجاه الأرض والناس بسبب فداحة فاتورة اللقيا والثمن العالي الذي يهزم جيوش اشتياقك رغم أن لقاء الأحباب أقرب إليك من حبل الوتين. لكن ما يلبث أن يرتد إليك ما تكن للأرض والأهل من مشاعر عند أول عناق. عجيب أمر ذلك البلد، تخرج منه ولا يخرج منك حتى يواريك ثراه.

تمر ساعة من الونسات المؤقته المتبادلة والتذمر المشترك الممزوج بالسخرية من المشهد ومن الذات، تسمع صافرة تعلن أن (السير) سيتحرك، تنتظر في جَلَد مريب حقيبتك دون إنذار مسبق، تمر من أمامك حقيبة حُزمت بالحبال كتب عليها إسم صاحبها بطريقة تكشف لك أنه لم يخطط للعودة ولكنها أسعار زيت الخليج (واهب اللؤلؤ والمحار والردى) على رواية السيَّاب، تمر أمامك عدة مرات في كل مرة تمد لسانها إليك في امتحان لصبرك أو بادرة تسرية من الحزام من باب (القحة ولا صمة الخشم).

بعد إحساسك بالدوار وفقد السوائل بسبب التعرق والوقوف لساعات كحرس القصر تصل الحقيبة وهي في الواقع “وصية” أرسلت معك، فنحن من أمة لا يتورع أهلها أن يرسلوا معك حقيبة زنة ٢٠ كم ، الواحد منهم يسألك عما إذا كنت (شايل معاك حاجة)؟. فترد شايل همومي وما قد يكون ضروريا لعطلتي، فيفيدك أنه سيرسل معك (شيئا بسيطا) فتومئ موافقاً بحسبان أنه سيرسل دواءا أو مظروفا فتعرف أنها حقيبة بالغة راشدة في كامل وزنها الإجتماعي وشحنتها المعتبره شرعا، تسأل نفسك سرا : أيظن صاحبها بأن حقيبتك وأغراضك سترسلهم بالأيميل أو الواتساب أو ترفعهم على الآي كلاود لتتلقاهم في البلد الأمين؟؟

تصبر وبعد أن ينفد الصبر تصبر تارة أخرى. تبرز الحقيبة الأسطورة ضاحكة بسبب فتحات مستحدثة كنتيجة لل (هاندلنق) بين المطارات. تفرح على اجتماع الشمل فالله على كل شئ قدير، فرحة كالشهقة الناقصة بسبب ما لحق بالحقيبة من جراح، تنزل حقيبتك من على العربة وتتجه إلى المخرج وأنت لا تدري ما الذي ضاع منها، سرعان ما يعاجلك شخص يتطوع لوضع الحقيبه أو دفع العربة وقبل أن تشكره أنك لا تحتاج المساعدة يبادرك بطلب (الحلاوة) فتندهش كيف سافر المصطلح إلى الخرطوم عكس تيار النيل!!

وأنت تهم بمغادرة (الهنقر) الحزين يعيدك بعض الموظفين وهم جلوس ممددي الأرجل إلى قسم الجمارك بزعم أن حقيبتك تحتاج فحصاً، بينما البلد يعج بكافة أنواع السلاح الثقيل (قطاع خاص) فتعود إلى طاولة الجمارك بعد مناورة بالعربة لا يقدر عليها إلا فطاحيل الميكانيكا والحواة.

تغادر المبنى لتتنفس بعض التراب المغربل في الخارج حيث تصادف كل أنواع البشر والمهن والحرف، الكل يريد ألا تفوته الفرصة لينل منك ما لا يستحق، يأتيك من يستقبلك فيخرج من باطن الأرض جيش ليرفع الحقيبة الأسطورة إلى السيارة ويبادرك الناطق الرسمي باسم ذلك الجيش بأن تدفع (الفيها النصيب).

تتجه إلى خارج المطار وتسأل مرافقك عن الراعي فيجيبك أنه (في الحج)، رحم الله ابن الخطاب فالبلد كلها نوق عثرن بالشام وما من مجيب. تندهش أن بلدا بهذا الحال أنى لولاته أن يفكروا في مجرد السفر خارج الحدود بغض النظر عن مقاصدهم، ويلوب في الخاطر سؤال: أتراهم غادروا من نفس (المطار) أم من منفذ آخر؟

تجري سيارتك في الشوارع التي لا علاقة لها بالشوارع في مدينة حزينة تحتشد بأكوام أوساخ وحرائق صغيرة أشعلها البعض للتخلص من القمامة المختلطة بمياه الأمطار الخضراء جراء مساهمة الطحالب المعطونة بسفهِ السلطة مع جبال أنقاض تجاور مبان مطلية بأصباغ الفجيعة هي في حقيقتها قلاعا تمثل هزيمة أمة وتعبِّر بصدق عن ما تبخر من رجاء في وطن بطعم الوطن. مبان كتب عنها أحد الزائرين الأجانب أنه لا يعرف ما إذا كانت تحت الإنشاء أم أنها جاهزة للهدم.

تمر من إشارات المرور التي لا يحترمها جل السائقين فتحار في كيفية نيلهم إجازات سوق تلك المركبات، يمرون على إشارات المرور المضيئة بكل ألوان الطيف دون تردد، فمن أمِن العقوبة أساء الأدب، سرعان ما تتجاوزك سيارات من كل الأنواع سيما رباعية الدفع تلك التي لا تحمل لوحات، نعم، تتجول في كل مكان وزمان دون لوحات هي وعدد لا يستهان به من الدراجات النارية في غياب تام لأدنى أصول الأمن والسلامة والإنضباط مع إعلان صريح للكافة ألا سلطة إلا لسائقيها وإلا كيف نبرر تلك الظاهرة؟؟،

بعض تلك السيارات مطلي بطلاء مموه بما يوحي أنها تتبع جهة (نظامية) ما، وعلى ذكر (نظامية) هذه، ففي وجعستان أصبح للكلمات معنى غير الوارد في المعجم، فالنظام والأمن لهما مدلول مختلف عما هو متعارف عليه. تتجاوزك من جهة اليمين سيارة كآخر موديل من المرسيدس مسرعة بين الحفر والخيران والجداول المكشوفة التي تعج بالناموس ونبات العُشَر في توأمة مجيدة بين شتوتجارت ووسخستان،

يتهادى على يسار الشارع لوري بدفورد (سفنجة) نزع منه كل ما يتعلق بالإضاءة ومعايير السلامة والراجح أنه جيء به من متحف الشركة وتخريبه عمدا ليتماهى مع محيطه، عليه شحنة برسيم تعانق السماء مع هامش للتوزيع من البضاعة على الشوارع، فالناس شركاء في ثلاث النار والماء والكلأ وزدنا عليها (الزبالة). على يمينك حافلة تجري بالعذاب ولوري (أوستن) موديل ١٩٦٨ (أبيض ضميرك) ، رضي الطيب عبدالله أم أبى، يتهادى بشحنة خراف بعضها ملَت الدرب وكرهت المسير كما غنى سيد خليفة، وأخرى تتفرج بعيون ناعسات على سيدة القرى وتبكي النهاية.

تمر من خلال طرق لا يأبه الناس بأدنى حقوقها، بشر يسيرون وسط الطريق وعلى أطرافه بلا هدى ولا هدف ولا غاية، يجرجرون أذيال خيبة مزمنة معها ما تبقى من أجسادهم وأسمائهم وأسمالهم بأسلوب العرض البطئ فتدرك أن (الزومبي) ليس خرافة.

تبلغ الحي ويدهشك غياب الكلاب التي لم يبق منها سوى من خانتها قواها على الرحيل، وبالسؤال يجيبك مرافقك أنه في ظل ما آلت إليه أسعار اللحوم إختفت حتى العظام عن أكوام القمامة. بصعوبة تمر السيارة من خلال الأزقة لتصل منزلك، ففي ذلك الحي (الراقي) اقتطع الكثير من القاطنين عدة أمتار على حساب الشارع وأقاموا عليها سياجا لتخزين سياراتهم أو زرعوا فيها نباتات أنانيتهم المروية بسبات المسؤولين من أهل الكهف، فهولاء أيضا لهم قضاياهم وهمومهم الخاصة بجمع ما أمكن من غنائم التمكين والتزاوج وكنز المال، أما أصحاب الدكاكين فقد صادروا مساحات إضافية من الشارع عرضوا عليها بضاعتهم فلم يعد بالإمكان المرور بيسر في تلك الطرقات المنكوبة،

أضف إلى ذلك المشهد ما خلّفه البعض من مواد بناء في منتصف الطريق قبل أن تتكفل الأمطار ومستنقعات الطحالب بإكمال اللوحة التراجيدية. هنا يغمرني حنين إلى نقيق الضفادع وكرنفالات البعوض الملوِّن للمساءات بسيمفونيات الخلود، لن يجادلني أحد أن بحيرة البجع من تأليف نيرون ولتشايكوفسكي الحريق وحسن العزاء. كيف حدث هذا؟ سؤال يعلم الجميع إجابته ولكن تخفيه ذاتك عن ذاتك خجلاً وانكساراً، فجميعنا شريك في الجريمة وكما قال مظفر النواب: لا أستثني أحدا..

تخرج في اليوم التالي لأداء الواجبات الإجتماعية التي لا تحتمل التأجيل بتعزية الحزانى ممن فقدوا أحبابهم بأسباب تتعدد. في الطريق تتوقف حركة السير ليمر رتل من العربات مظللة الزجاج تسبقها صافرات (السارينا) فيقال لك أنه موكب أحد المسؤولين، تظن أن فيه مهاتير أو ناصر أو تشرشل أو نكروما أو ديجول أو أنجيلا ميركل أو لي كوان يو وحبيبنا مانديلا، أو أي ممن صنعوا أوطانا تناطح السحاب، فتعرف أنه أحد مسؤولي (الهوت دوغ)،

موكب كل سيارة فيه تزيد قيمتها على المليارين من الجنيهات المنتزعة من دماء الشعب قطرة قطرة والأطفال يفترشون الأرض لتلقي العلم في العراء، وبعضهم أسلم الروح لغياب أدنى مستلزمات الشفاء. تلتفت إلى مقالب النفايات والزمان فتجد طوابير المشردين تنبش فيها ليوفروا قوت يومهم. تعيد السؤال لرفيقك: هل أنت جاد في قولك أن ولاة الأمر في عرفات وهل هم مطمئنون أن الله سيتقبل منهم؟.

في سرادق العزاء تسمع عن كل شئ، تنطلق ألسن الناس بلا كوابح، يتحدث بعض المعزين بصوت جهير عما دار بين بعض (شيوخ البذاءة) من معارك وما تبودل على الملأ من ساقط أقوال نقلتها وسائط التواصل الإجتماعي التي لولا طرائفها لمات الوالي كمدا كما سمعنا. قالوا إن الأمر لن يمر كسحابة صيف، لكن آخر يرى أن ليس في الأمر عجب، فما جرى هو الأصل وأن الجميع يتبادل فاحش القول سرا ولن يُحاسب القائل والقاتل لأسباب لا تخفى حتى على تلاميذ مرحلة الأساس، بأسهم بينهم شديد والقاسم المشترك هو العيش التكافلي كما في قصة التمساح والطائر الذي يتغذى على بقايا اللحم في أسنان التمساح فيشبع من تنظيف أسنان الأخير وهكذا تسير الأمور في ألمستان. إنه تحالف السلطة والمال، تصاهرتا فانصهر الشعب وتبخر أي أمل في أي زاوية من النفس بغدٍ جميل.

في ناحية أخرى من السرادق تعلو الأصوات ولغط حول أسباب خسارة الفريق الفلاني وأن ذلك مرجعه إلى تولي الدخلاء مصير الرياضة فكل شئ في خذلانستان يشترى بالمال بما في ذلك رئاسة الأندية والألقاب الأكاديمية فأصبح السواد الأعظم من سكان البلد من حملة الدكتوراه ودرجة الأستاذية حتى تخال أنك في وادي السيليكون أو معهد ماسيوسيتش للتكنولوجيا قبل أن يعيدك إلى صوابك من يقف للتبول في مجرى مواز للطريق وغير بعيد عن جار قرر التخلص من بقايا الأضحية عند باب بيتك.. فتتجاوز عن إساءته عملا بوصية (الدين) ولإدراكك أنها الفردانية الشرسة التي انتظمت البلاد نسجا على نول عشيقة لويس، أنا ومن بعدي الطوفان. ينصحك مرافقك أن دعه، فلديك ما يكفيك من حروب وليس هناك ما يستدعي المزيد منها. يقول حمزاتوف: شيئان في الدنيا يستحقان المنازعات الكبيرة وطن حنون وامرأة رائعة الجمال، أما بقية المنازعات فهي من اختصاص الديكة.

تغادر العزاء لمعاودة المرضى وأداء طقوس الوداع الأخير لمن زرتهم ودعوت لهم بالشفاء جهرا ورددت سرا: أنتم السابقون ونحن اللاحقون، تتجه لتهنئة من تزوجوا في غيابك ثم من صادفت احتفالهم معبرا لهم عن فرحك بإنجازهم، تبارك لهم شجاعتهم وجرأتهم مرددا بينك وبين نفسك سؤالا يتعارض مع تسونامي حالة الحب والغيبوبة التي تسبق عقد القران: ماذا أعددتم لقادم الأيام الكوالح المسهدات؟ وهل مهدتم الأرض لأبرياء في الطريق؟

تغشى صالات (الأفراح) فقط لتؤدي التزامات إجتماعية، تلك المناسبات التي لم تعد لحظات لاحتفاء من القلوب المضرجة بالفرح كما عهدناها في الأيام الخضر بقدر ما هي سويعات من النفاق المكلف، تلتقي العروسين و(أولياء أمورهم) الذين أفنوا مدخرات العمر لتحترق في ساعتين من التنافس في المظاهر الخادعة والزار الدائري، تمر بين الطاولات لا تكاد تميز بين البنات فجميعهن بلمسة (ميدوزا) أصبحن بلون واحد وملامح مشتركة ولولا الفوضى في كل شئ لظننت أنك في حفل بشانغهاي، تلاشى لون بناتنا الأسمر الجميل دون سابق إنذار والوجوه اشتعلت قمحا ودقيقا وأشياء أخرى، تحرص على مصافحة أهل (الفرح) المؤقت فقط لتسجل في دفتر الحضور كمراوغة خفية للعتاب، هنا لا تسمع من كلمات المجاملة حرفا فالكل مشغول مع المغنية وهي تعوي:

(انا جيتك يا خاينة وانتي صاحية ولا نايمة … لو انتي مرتو الاولى أنا ببقى ليهو التانية .. مغرزة …. جب جب جب..)

… تحث الخطى مغادرا ذلك المفاعل النووي الهيستيري الخطير عائدا إلى حيث أتيت درءا لما يمكن أن يصيبك بسبب الضجيج المنضّب والمظاهر التي تتضاد مع عموم الحال مدفوعا بقلق على راحلتك في الخارج والتي يندر ألا تكون قد تعرضت لاختفاء بعض أجزائها، تصلها وصدى العواء يلاحقك (خالتو الشمشاره لافحة توبا لشمارا .. كان ما عجبتا الحالة تقعد تربي عيالا، وبرضو عروسنا حلوه حلا، الصفقة، الصفقة، الصف.. الص).

تلقى دعوة من صديق قديم لكوب شاي في ذلك الفندق الأنيق الفاحش الغلاء فتلحظ بنظرة سريعة أن معظم الرواد من فئة لا تخطئ العين أنهم من مستحدثي النعمة، بفرض أن المال في يد البعض نعمة، يتبدى ذلك جليا في طريقة التزيي ومواضيع الحديث والقهقات العالية السمجة منزوعة الذوق مع أحذية (تحلل) عنها أهلها تحت الطاولات مؤقتا بغرض (التهوية) وعمائم وضعت على الأكتاف وثمة نفر بذلوا جهدا للتفرنج في مظهر يبعث على شعور يتراوح بين الرثاء والبكاء، كل المشهد يولد فيك إحساسا باليتم. من السماعات تخرج مقطوعات صولو الساكس المعروفة لكيني جي، خجلى تكاد تتوارى، تجول بناظريك حول المبنى والحضور فتحسب لوهلة أنك أمام لوحة سوريالية لدالي أو في مشهد من مسرح العبث، فلا تدري هل ما ترى كونشيرتو لعوضية مفكات أم أنه ديسباسيتو بالكوارع..
تسأل محدثك كيف يديرون هذه الفوضى وكيف يتم التخطيط للغد في هذا البلد وما إذا كان هناك أدنى إحساس بأن الجميع في خطر عظيم وفي اتجاه واحد نحو الهاوية؟ يرد بابتسامة ساخرة وحزينة في آن، فالبلد جميعه غدا ضربا من مسرح اللامعقول، بلد لاشك أنه يدار ب ( ست الودع أرمي الودع لي كشكشي..)، ولأنك تحسب أن محدثك من العالمين ببواطن الأمور تسأله عن المآلات فيبادرك بالنصح أن تنسى هنا كل شئ تعرفه عن الخارج لأن وجعستان في كوكب آخر وأن عليك تغيير (السوفتوير بتاع بره) بمجرد دخولك أجواء البلد. الشئ الآخر أن عليك بالصبر حتى يعجز الصبر عن صبرك، ثم بعد نفاد صبرك تصبر مرة أخرى حتى تذهل كل مرضعة عما أرضعت فجل من ترى تشجيهم رائعة العميد (فارِق لاتلم …أنا أهوى الألم.. ).

تؤدي الجمعة في المسجد القريب بتوقيت انقطاع التيار مستمعا لخطبة عن تهجد ابن قتاده كدواء لمزمن الأمراض وكيف تكون جهنم في فقه ابن معديكرب وما كان يردده أبو حنيفة في صلاة الميت ودعاء المتوفى عنها زوجها وما يجب أن ترتدي من ثياب في عدتها وكيف يكون عذاب القبر وفصيلة المامبا المكلفة بمعاقري الخمر والكوبرا المخصصة للمتبرجات، وكيف انطفأت (لمبات) حصن خيبر وكيف انتهت موقعة الأحزاب بالدفاع بالنظر، وعن رأي الحنفية في غسل الميت وما يفضله ابن حنبل من كفن وكم يلزم الأرملة من حزن طويل التيلة، ثم يذرف الدمع الهتون على القمرين النيرين،

خطيبنا تحدث في كل شئ عدا موقعة الرغيف وفساد الذين استباحوا ما تبقى من البلد ولا ذِكر للحاويات التي تهربها قبيلة هوازن أو المال العام الذي استباحه بنو قينقاع يا أخا العرب، ولا السرطان والكوليرا وفشل السد والكٌلي الذي انتظم مضارب بني هلال. يختم خطيبنا بالدعاء الدائري على أهل الكفر والإلحاد والغرب الذي أراد بالبلد سوءا فنحن مستهدفون لتمسكنا بديننا لكنها ابتلاءات فما لدنيا قد عملنا والأفضل أن ننساها ونعد النفس للآخرة، فتسأل نفسك: ما لهذا الرجل؟ يا رعاك الله أتظننا أحياءا؟ أولم تسمع قوى الشعب العامل تردد مع (الخُدير) وهو يحتضر: أنا ماني حي!!

بلد تنصب فيه المحاكم السريعة لجلد الحرائر بجنحة ارتداء البناطيل و(تتحلل) فيه جيوش اللصوص ممن نهبوا بلدا بحاله فذهبوا بما غنموا دون أن نسمع عن مجرد لوم أو تقريع لهم عن ما جنت أياديهم. بلد يأكل اللهب من أطرافه والساسة من فؤاده وتجتاحه الحرائق والمآزق من كل اتجاه والخطباء والساسة يدعون على الكفر نهارا جهارا ويسألون ترمب المدفع الرزام الدقاتو من حظرك في السر أن يرضى عنهم ليلا.. وأنت تغادر المسجد يسبقك الإمام إلى سيارته الفارهة وبجواره رفاق اللحى المعطرة يتضاحكون متكرشون حتى تلاشت الرقاب وفي المقعد الخلفي لل (برادو) تتوهط بطيختان ضخمتان فتعرف من عناهم بالقمرين النيرين مع بعض صناديق التفاح اللبناني الذي باركه ميشيل عون وحلويات شامية بخاتم جيش النصرة فالمؤمن حلوي. الخميس كان مباركا وكذا ستكون الجمعة مثنى وثلاث ورباع حتى ليلة السبت و (يا حلوة العينين يا أنت..)

تمضي أيامك سراعا قبل أن تستوعب ما يجري فتحمل ما تبقى من حقيبتك المحشوة بتقرحات الروح وجسد غادرته بهجته وملَّته مهجته لتتقاذفك مطارات الدنيا، وأنت بصالة المغادرة تعيد شريط أحداث انقضت في لمح البصر، حزينا ترتل ما تيسر من سورة الحزن وتغرق في حال لخّصه القائل:

مَتى مِن طول ِنـَزْفِكَ تَستـَريحُ ؟
سَـلاماً أيـُّها الوَطـَنُ الجَريحُ !
تـَشابَكَت النـِّصالُ عليكَ تَهوي
وأنتَ بكلِّ مُنعـَطـَفٍ تـَصيحُ
وَضَجَّ المَـوتُ في أهليـكَ حتى
كأنْ أشـلاؤهـُم وَرَقٌ وَريـحُ !
سَـلاماً أيـُّها الوَطـَنُ الجَريحُ
وَيا ذا المُسـتـَباحُ المُستـَبيحُ
تـَعـَثـَّرَ أهلـُه ُبَعضٌ ببَعض ٍ
ذبيحٌ غاصَ في دَمِه ِ ذبيـحُ !
وأدري ..كبـرياؤكَ لا تـُدانَى
يـَطيحُ الخافِقـان ِوَلا تـَطيحُ
لذا سَتَظلُّ تـَنزفُ دونَ جَدوى
ويَشرَبُ نَزفـَكَ الزَّمَنُ القبيحُ !
سَـلاماً أيُّـها الوَطـَنُ الجَريحُ !

تغيب عن ما حولك وأنت تواجه بوابة المغادرة وفي النفس أمنية أن يأتي مندوبا من الناقل ليعلن أن الرحلة ألغيت وأننا سنعود إلى بيوتنا وأحبابنا وأحزاننا وأفراحنا وحتى من زرع الوجع فينا، لكن (الأماني إذ نشتهيها .. تعلقنا من سراويلنا في الهواء) لكن سرعان ما تأخذنا الحافلات إلى طائرة لها أثر التابوت في النفس .. تقلع طائرتك فتلقي نظرة أخيرة على النيل من النافذة دامعا:
وتقول سلام
وتعيد سلام
على ..
نيل بلادنا
وشباب بلادنا
ونخيل بلادنا

وحتى يعرض مسرح الوطن تراجيديا أخرى حين ميسرة، أو ريثما نعود بلا وثائق ولا حقائب ولا أشواق في صندوق ضمن ال (كارقو) يتلقى المرسل إليهم العزاء مسرعين به إلى حيث لا سلطة ولا مال ولا تعب ولا نصب ولا لغوب ..

(اللهم إني سجين قبري بدني..
هلم يا اسرافيل وانفخ في صوري
من أجلي حتى توقظني)

– مولانا جلال الدين الرومي –

فيسبوك – هشام هباني


بواسطة : admin
 0  0  2455
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 03:38 صباحًا الإثنين 6 مايو 2024.