• ×

د. النور حمد : الحكومة ..حين لا تعمل ولا تترك الناس يعملون

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية من أعظم الاختراعات التي اخترعتها البشرية، التنظيم المسمى "الدولة". لكن، الدولة، من حيث هي، ظلت خليطا من نعمة ونقمة. ويمكن القول، إن الدولة ظلت، في عموم الأمر، أقرب ما تكون إلى النقمة على بني البشر، منها إلى النعمة. ويبدو أن ذلك جزء لا يتجزأ من طبيعتها. وينطبق ذلك حتى على الدولة الحديثة، التي يمثلها النموذج المتبع في أعرق الديمقراطيات الغربية اليوم. غير أن نقمة الدولة، في العالم المتقدم، أقل وبما لا يقاس، إذا ما قورنت بنقمتها في العالم النامي، خاصة في إفريقيا والشرق الأوسط. الشاهد هنا، أن دولة الانسان العادلة، المقسطة، لم تأت بعد، ولربما يطول الوقت، ولربما يقصر قبل أن يستحصد الوعي البشري، فيجعل مجيء تلك الدولة أمرًا ممكنا. ومع كل عيوب الدولة، تبقى الدولة هي السبيل الأوحد لذلك المجيء، الذي ما منه بد.
حلمت الماركسية اللينينية بنهاية الدولة، وبشّرت بتلاشيها. وكان الفيلسوف، فريدريك أنجلز، رفيق درب كارل ماركس، هو الذي صك مصطلح "تلاشي الدولة". فقد زعم أنجلز أن تحقيق الاشتراكية سوف يقضي على الحاجة إلى جهاز الدولة. فعن طريق التطبيق الاشتراكي، تصبح الجماهير حاكمةً لنفسها بنفسها، فتنتفي الحاجة إلى الدولة، وتنتهي من ثم اكراهاتها المعروفة، التي تمارسها على الجماهير. وهذه الإكراهاتٌ مندغمةٌ، بصورة طبيعية، في بنيتها. لكن الذي حدث، أن الماركسية اللينينية، نقلت الأوضاع، بثورتها، من سيطرة رأسمالية المُلاَّك وأصحاب العمل، إلى سيطرة رأسمالية الدولة، في ظل نظام سياسي، شمولي، استبدادي، تتحكم فيه البرجوازية الحزبية، من طبقة من يُسمون، "المثقفون الثوريون". وهكذا، ما لبث أن انهار التطبيق العملي للماركسية اللينينية قبل أن يكمل رحلته.
من الناحية الأخرى، منَّت النظم الديمقراطية في الفضاء الغربي، الناس، بالحرية والعدالة والمساواة. غير أن ذلك لم يتحقق في الواقع العملي، مثلما كان متصورا. فالثروة أصبحت تتركز بتزايد في أيدي قلة، لدرجة أن أصبح 1% من المواطنين يملكون 50% من حجم الثروة. كما أضحت دخول الناس تتناقص أمام التضخم وازدياد معدلات الغلاء، وأمام نهم الرأسمالية المستمر لزيادة هامش الربح، الذي أخذ يتسع بلا ضوابط؛ (نموذج الخدمات الصحية في أمريكا، على سبيل المثال). كما أن فرص العمل نفسها أصبحت تتناقص، ويتناقص معها ما يسمى "أمن الوظيفة، أو المهنة" job security. أيضا أخذت ساعات العمل تزداد، ولا تنقص. وبعد أن كان دخل الزوج، أو الزوجة، يكفي قبل عقود، لإعالة الأسرة بكاملها، أصبح دخل الزوجين معًا لا يكفي حاجة الأسرة، في الوقت الحالي. فالوعود بالرفاه تتراجع، بل، يحدث عكسها تماما. ولقد تسبب ذلك، وغيره، مما لم نذكره هنا، في كوارث اجتماعية مختلفة؛ منها، على سبيل المثال، العزوف عن الزواج، والتزايد المفزع في معدلات الطلاق وسط الزيجات التي تحدث. يضاف إلى ذلك الارهاق البدني المتزايد للأفراد، وارتفاع معدلات الضغوط النفسية، ما قاد إلى إهمال تربية الأطفال والعناية اللصيقة بهم. وانعكست آثار كل ذلك في تراجع التحصيل الدراسي، وفي جنوح وانزلاق الأبناء والبنات في عوالم المخدرات، والجريمة. بعبارة أخرى، أصبحت الدولة المنحرفة، العاكفة على عبادة صنم الربح، خصمًا ثابتًا على كل قيمة وفضيلة إنسانية.
يمثل ما تقدم عرضًا موجزًا للخل الهيكلي في أنظمة الحكم التي تقاسمت السيادة على العالم في القرن المنصرم، الذي انتهى بانهيار المنظومة الشيوعية، وبتحول العالم برمته إلى النظام الرأسمالي. لكن، مع كل اخفاقات النظام الرأسمالي، فإن ديمقراطيته، على علاتها، تسمح بمقاومة الطغيان الرأسمالي؛ على الأقل؛ تعريته وفضحه، ومحاولة كبح جماح غلوائه. أما في السودان، حيث لم يبدأ بناء دولة ما بعد الاستقلال، بعد، فإن الحكومة ظلت، ولا تزال، خصما على الجهود القاعدية التي تستهدف إنجاز هذا البناء. فالحكومات الشمولية، التي احتلت أكثر من 80% من فترة ما بعد الاستقلال، ظلت تصادر دور المجتمع، مصادرة تامة، بل، تخمد طاقاته، وتضعه على مدرجات المتفرجين. وقد دللت حكومتنا القائمة الآن، على أنها الأكثر غلواء في هذا النهج؛ فهي لا تعمل، ولا تدع الناس يعملون. وكلنا يعرف، على سبيل المثال، كيف نهضت حكومتنا هذه، نهوض الضرة، لانتزاع زمام المبادرة من بين أيدي "شباب نفير"، ومن بين أيدي "شباب شارع الحوادث"، ومن منظمات المجتمع المدني. وكيف حرصت، عبر عقودها الثلاث، على إضعاف الأحزاب السياسية، وإفقارها، وملاحقة قيادييها بالاعتقالات المتكررة، والدفع بالنخب، وغير النخب إلى المهاجر، بأعداد مخيفة. أيضا رأينا، كيف حرصت على أن تضع مجتمع الرياضة، ومجتمع الثقافة، والفن، والأدب، بل، وحتى الطرق الصوفية، في جيبها.
أصبحت الحكومة القائمة في السودان، الآن، إلى جانب مصادرتها لكل شيء، ومحقها لطاقات المجتمع المدني، وقتلها للمبادرات الخلاقة، تعمل بمختلف السبل، على سلب الدولة مقوماتها، الأمر الذي يقود إلى انهيارها. ويمكن القول، دون مبالغة، ألا فرق بين حكومتنا هذه، والحكومة الخديوية، التي حكمت السودان بين 1821، و1885م، خاصة فيما يتعلق بالجبايات الباهظة التي تُنتزع من قوت المواطنين الضروري، ولا تعود إليهم في أي صورة من صور الخدمات التي تقدمها الحكومات الرشيدة لمواطنيها.
حكومتنا القائمة الآن حكومة جبايات، من الطراز الأول. وعلى سبيل المثال، فهي تضع جمارك على السيارات تزيد عما تتقاضاه الشركة المنتجة للسيارة. وهي تضع ضرائب على أرباح الأعمال الصناعية والتجارية والزراعية تجعل الاستمرار في الانتاج متعذرا تماما. في نفس الوقت، تسمح الحكومة للأفراد، خاصة المتنفذين وأقربائهم، الساعين للربح السريع، باستيراد السلع الكمالية التي تستنزف الرصيد المحدود للبلاد من العملات الأجنبية. وعلى سبيل المثال، أخرجت عمليات استيراد الأثاث المستورد، التي جرت عبر العقدين الماضيين، آلاف المُصنِّعين، وعشرات الآلاف من العاملين في تصنيع الأثاث المحلي، وقس على ذلك.
أصبحت الحكومة السودانية القائمة الآن مجرد قوة عسكرية وأمنية باطشة، يتركز دورها في حراسة شبكات الفساد، ورعايتها، وفتح الأبواب على مصاريعها لاستنزاف موارد البلاد، لغير مصلحة البلاد، وغير مصلحة مواطنيها. هذا النمط من السلوك الحكومي، الفاقد للبوصلة الهادية، يحول الحكومة من دورها كخادم للمواطن، ونصير له، إلى عبء ثقيل عليه. ولربما يصبح، من ثم، الرجوع إلى مرحلة ما قبل نشوء الدولة ونشوء الحكومات، أفضل من البقاء تحت سيطرة هذا النوع من الحكومات. فالحكومة التي لا تعمل، ولا تترك مجالا لمواطنيها لكي يعملوا، تستحق أن توصف بأنها: "حكومة أخير عدمها". لكن المشكلة تكمن في درب الرجوع من الدولة الفاشلة إلى مرحلة ما قبل الدول دربٌ محفوف بالكوارث والمآسي التي يشيب لها الولدان. وأخشى أن نكون منزلقين، في ذلك الطريق الذي يقود إلى درك "اللادولة". وما أكثر الشواهد الدالة على ذلك، الآن.
المصدر: أخبار الوطن


بواسطة : admin
 0  0  936
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 02:51 صباحًا الخميس 9 مايو 2024.