• ×

سجن الهدي ..تكلفة "النزلاء" أعلي من قيمة المديونيات

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية صديق رمضان

عندما تلوح الشمس بالوداع معلنة انتهاء ساعات النهار، تعتريه حالة من الضيق لا يعرف من أين تتسللت إليه، غير أنه يحاول التغلب عليها أو فلنقل الهروب منها، بيد أنه وعندما يأتي منتصف الليل فإن لحظاته تتحول الى جحيم لا يطاق، لأنه في هذا التوقيت تستدعي ذاكرته تلك الأيام والسنوات التي قضاها بين أسرته، تمنحه بعضا ًمن السعادة المؤقتة، غير أنه سرعان ما تجتاحه الأحزان، فهو ظل أسيراً بين جدران سجن الهدى بغرب أم درمان عاجزاً عن تسديد ما عليه من ديون، وفي ذات الوقت لم يتمكن من الوقوف أمام القاضي حتى يتمكن من إثبات إعساره، لتمر على أستاذ المرحلة الثانوية ثلاثة أعوام بائسة ويكاد مثل غيره من النزلاء الذين حالت ظروف بينهم والوقوف أمام القضاء والعدالة أن يفقد الأمل تماماً في مبارحة سجن شديد التحصين يخشون أن يخرجوا منه صوب مرقدهم الأخير لتطاول أيام حبسهم رغم تأكيدهم على أنهم معسرون.

خمس سنوات قاسية

في سجن الهدى بغرب أم درمان يوجد عدد من النزلاء الذين قضت الظروف أن يقبعوا خلف أسواره على ذمة قضايا مالية، إلى هنا قد يبدو الأمر عادياً ولكن ما يعتبرونن ليس طبيعياً أن يعجزوا عن مقابلة القضاة بالمحاكم المختلفة لإثبات إعسارهم.

دعونا نستعرض نماذج بسيطة لهذه الشريحة، ونبدأ بقصة المعلم السابق في المرحلة الثانوية أبوزيد الذي حكمت عليه محكمة بحري في العام 2012 تحت رقم تنفيذ 109 والمبلغ مثار الدعوى 104 ألف جنيه، حكم قضى بدفع المبلغ مثار الدعوى للشاكي، غير أنه عجز تمامًا عن تسديد المبلغ وكان مصيره الحبس في سجن الهدى منذ ذلك الوقت، وفي العام 2014 حاول وضع حد لتطاول أيام حبسه، وتقدم بطلب إعسار إلى المحكمة في الرابع عشر من شهر مايو من العام 2014، وكان يحدوه الأمل أن يعود إلى أسرته الصغيرة لقناعته التامة أن المحكمة وبعد تحرياتها ستتأكد من أنه ليس معسراً وحسب، بل يندرج تحت مظلة المعدمين والفقراء الذين يستحقون الدعم، غير أن أمله تبخر لأنه ظل لثلاثة أعوام وأربعة أشهر يحاول الظهور أمام القاضي، إلا أنه عجز تماماً حيث لم يتم عرضه طوال هذه الفترة عليه، ولم يتوجه ناحية المحكمة .

اليأس يتملكه

ويقول الرجل الذي كان معلماً بإحدى المدارس إنه وبعد أن أصابه اليأس صرف النظر تماماً عن إمكانية ذهابه في يوم من الأيام إلى المحكمة، حيث كانت تساوره شكوك قوية أن الشاكي يقف وراء هذا الأمر ويحول بينه والتوجه نحو العدالة التي يثق جيداً في أنها ستنصفه إذا مثل أمامها وعرض مظلمته عليها، ولكن وبعد طول انتظار وبواسطة مناشدة نشرت له منتصف هذا العام في هذه الصحيفة، وقعت في يد رئيس القضاء فوجه على الفور بعد معرفته تفاصيل قضية المعلم بتحريك الملف حتى تنظر محكمة بحري في أمر إعساره، وهذا المعلم له خمسة من الأبناء والبنات ظل بعيداً عنهم لخمسة أعوام وهو حبيس بسجن الهدى عاجزًا عن إثبات إعساره بسبب عجزه الكامل عن مقابلة القاضي أو الحيلولة بينه والمحكمة عن عمد ـ كما أكد ـ طوال ثلاثة أعوام وأربعة أشهر إلى أن جاء توجيه رئيس القضاء الأخير، علماً بأنه فقد مهنته بعد أن تم فصله عن العمل، ومن داخل عنبره بسجن الهدى يقول لـ(الصيحة) إنه يسأل الله في كل الأوقات أن يتمكن من مقابلة القاضي المختص وألا يقف الشاكي في طريقه، وذلك حتى يتمكن من إثبات إعساره، كاشفًا عن أن عددا مقدراً من المحبوسين في الحق الخاص بسجن الهدى عاجزون عن إثبات إعسارهم لأنه يوجد من يضع متاريس في طريق وصولهم إلى المحاكم، ويردف: للأسف الشديد فإن مسلمين سودانيين مثلنا ورغم معرفتهم ظروفنا القاسية وعجزنا التام عن السداد يتعمدون أن نبقى وراء السجون حتى ينتقموا منا، و"يشفوا غليلهم"، نتمنى من رئيس القضاء المعروف بالوقوف مع الحق أن يفرد اهتماماً لهذه الظاهرة، ومن تثبت التحريات أنه معسر يطلق سراحه، ومن وضح خلاف ذلك يبقى وراء القضبان.

نماذج أخرى

حينما طلبت عدداً من النماذج التي تؤكد وجود نزلاء معسرين وعاجزين عن الذهاب إلى المحاكم لإثبات أعسارهم، تم مدي بقائمة طويلة، فاخترت منها عدداً من الأسماء، على أن وتبدو قصة مجدي آدم الغالي قريبة الشبه من تفاصيل سيناريو الأستاذ أبوزيد، فقد تمت محاكمته تحت المادة 131 في العام 2013 ،وأخر ظهور له في المحاكم كان في ذات العام حتى وصلت قيمة التنفيذ 41 ألف جنيه من الغرامة التي أوقعتها عليه المحكمة والتي عجز تماماً عن الإيفاء بها لأن ظروفه كما ظل يؤكد لا تساعده على توفير المبلغ، وأيضاً لم يتمكن من الوقوف أمام المحكمة لتقديم طلب يثبت إعساره، وفي سجن الهدى فإن قصة النزيل ميل متاد ماو شان لا تختلف عن سابقيه في شيء فهو أيضاً محبوس على ذمة المادة 131 تحت رقم تنفيذ 234، ويشير إلى أن الشاكي لا يريد تحريك ملف القضية ويتعمد ذلك حتى تتطاول فترة إقامته بسجن الهدى.

من ناحيته فإن حمدي حسن دياب كرم الله عجز أيضاً عجزاً تاماً في مقابلة المحكمة، حيث كان آخر ظهور له في محكمة الامتداد بتاريخ الثامن والعشرين من شهر أغسطس من العام 2014، وأخيراً الرقيب محمد موسى إبراهيم حسن الذي تم الحكم عليه في الثالث والعشرين من شهر أغسطس عام 2011، فإنه ظل حبيس جدارن سجن الهدى سبع سنوات متتالية في مبلغ تنفيذ 299 ألف جنيه، وعجز عن تسديده كما أنه لم يتمكن طوال سنوات من مقابلة المحكمة لإثبات إعساره، وهذه مجرد نماذج بسيطة جداً لنزلاء في سجن الهدى لم يتمكنوا من تسديد ما عليهم من التزامات مالية ديوناً كانت أو غرامات، وفي ذات الوقت لم يجدوا طريقة لإثبات إعسارهم لأنهم لم يتمكنوا من مقابلة القضاة والذهاب إلى المحاكم بتعمد الشاكي عدم تحريك الملف للإبقاء على بعضهم بالسجون أو حسب اعتقادهم وجود من يعرقل مثولهم أمام القضاء لإثبات إعسارهم.

مفارقات غريبة

قبل سبر أغوار هذه القضية، لابد من الإشارة إلى أنه ومن المفارقات الغريبة التي تحتاج إلى وقفة متأنية ودراسة عميقة فيما يتعلق بقضية المادة 179 المتعارف عليها بـ”يبقى لحين السداد”، أن ما تصرفه الدولة على النزيل الواحد خلال العام يتجاوز في كثير من الحالات المديونية التي تسببت في الزج به وراء القضبان. وهنا تكفي الإشارة لثلاثة أمثلة فقط لنصل إلى هذه الحقيقة، فأحد النزلاء ظل حبيس جدران السجن منذ العام 2003 بسبب مديونية تبلغ 28 ألف جنيه، أما ما صرفته الدولة عليه خلال هذه الفترة فقد بلغ 248 ألف جنيه، وسجين ثانٍ بلغت تكلفة إعاشته 180 ألف جنيه رغم أن مديونيته تبلغ أربعين ألف جنيه، أما الثالث فقد كلف الخزانة العامة 45 ألف جنيه رغم أن مديويته تبلغ 36 ألف، وما يعضد ما ذهبنا إليه في الفقرة السابقة، فإن الإحصاءات الرسمية المتعلقة بتكلفة الخدمات التي تقدم لنزلاء مدينة الهدى وهي الغذاءات والملابس والعلاج والنقل والترحيل والبرامج التعليمية والتثقيفية التي تكلف في العام الواحد 34 مليون جنيه، منها 32 مليون جنيه توجه ناحية الغذاء ونصف مليون جنيه لشراء الملبوسات.

الأرقام تتحدث

وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن الموقوفين خلال ثلاثة أعوام بسجن الهدى بلغ عددهم ثلاثة آلاف وتسعمائة وواحد وعشرين نزيلاً تبقى منهم ألف وأربعمائة وثمانية وسبعون، وتبلغ مديونيتهم نحو ثلاثمائة وستة وتسعين مليون جنيه، والغريب أيضاً أن ذات الإحصاءات الرسمية والدقيقة توضح أن الذين أطلق سراحهم منذ العام 2013 إلى العام 2015 بلغ عددهم 8683 نزيلاً، حيث تكفلت جهات حكومية مختلفة بإطلاق سراح 1214 نزيلاً، ولم يتم توضيح هذه الجهات التي يأتي جهدها مجتمعة متواضعًا مع ما بذله ديوان الزكاة خلال هذه الفترة الزمنية حيث تمكن من الإسهام في إطلاق سراح 55584 نزيلاً ورغم ذلك فإن كثيرين يؤكدون أن الديوان كان عليه إطلاق المزيد من سجناء الحق الخاص لما يمتلكه من إمكانيات مادية ولوجد مصرفاً شرعياً محدداً وهو الغارمون، وأيضاً جاء عطاء منظمات المجتمع المدني متفوقًا على الجهات الحكومية رغم أنها دون المستوى المأمول من شعب عرف عنه إغاثة الملهوف وفك ضائقة المحتاج حيث بلغ عدد الذين أطلقت سراحهم منظمات المجتمع المدني 1885.

جدل واسع

ومجددًا يعود الجدل حول المادة 179، وهنا في ذات السياق برأ الخبير القانوني نبيل أديب الشريعة الإسلامية من عملية حبس المدين المعسر التي قال إن منشأها مأخوذ من قانون حمورابي الذي كان يسمح باسترقاق أو استعباد الدائن للمدين العاجز عن السداد بأن يعمل لديه حتى يكفي دينه، وأكد أن هذا النص الآن مترجم في المادة (243) مادة يبقى لحين السداد والفارق بينها وبين قانون حمرابي فيه الاسترقاق، وقال أديب: هنا يتم سجن المدين المعسر والدولة هي التي تدفع تكاليف، المسألة أصبحت بسلب المدين حريته، بالتالي فقد الدائن ماله، وزاد يمنع حبس المدين المعسر، وحمّل أديب الجهاز المصرفي مسؤولية حماية الشيك المؤجل لأن جزءاً كبيراً من الموجودين في سجن الهدى الآن هم ضحايا لهذا النظام المصرفي، وطالب نبيل في ختام حديثه بأن يتم التعامل مع الديون بطريق القانون المدني وإبعاد القانون الجنائي، فيما طالب القانوني الطيب العباس بإنشاء صندوق مساهمة قومي لحماية المعسرين ترعاه الدولة ضمن سياستها لإصلاح الاقتصاد وتساهم فيه الزكاة والضرائب والجمارك وكل النوافذ المتحصلة في الدولة التي حملها مسؤولية وجود الأعداد الكبيرة من المدينين المعسرين بسبب سياساتها الاقتصادية التي تعتمد على الجبايات ومصادرة رؤوس الأموال، وطالب الدولة بأن تتدخل لمعالجة هذا الأمر.

طبيعة جنائية

بدوره قال المحامي عبد الله علي النور: من المعلوم أن القانون الجنائي السوداني يعاقب على ارتداد أي صك من البنك إذا كان ليس لصاحبه رصيد، أو التوقيع مخالف أو أن الحساب مقفول، رغم أن التعامل ذو طبيعة مدنية إلا أن المشرع أعطى للصك أو الشيك طبيعة جنائية، وبمجرد رد البنك الشيك يكون هنالك شخص أو عدة أشخاص قد وقعوا تحت طائلة القانون الجنائي بما يستوجب توقيع العقوبة عليهم وهي السجن أو الغرامة وقد يتم الجمع بين العقوبتين عند صدور الحكم بمعاقبة الجاني أو الجناة حيث تحكم المحكمة أيضا بإلزام المدين بسداد قيمة الشيك، وتوجه الشاكي أو المحكوم له باللجوء لتنفيذ الحكم عن الطريق المدني، وهنا يبدأ فصل جديد في مواجهة المحكوم ضده الذي ما إن أكمل فترة عقوبته يتم إعلانه لجلسة أمام محكمة التنفيذ، وعند حضوره يقع تحت رحمة الدائن إذ يصبح وصفه القانوني هنا المدين، والتنفيذ يبدأ بالحجز على أية أموال نقدية أو منقولات يملكها المدين ثم العقارات وتباع بالمزاد العلني.

تجميد الملف

ويواصل عبد الله الحديث موضحاً أنه في حال عدم وجود أية أموال ظاهرة تستجيب محكمة التنفيذ لحبس المدين إلى حين السداد، وعادة ما يتم تحديد جلسات لمتابعة السداد وإذا لم يتم سيطول بقاء المدين في الحبس إذا كان المدين تاجراً ويحمل رخصة تجارية يستطيع أن يتقدم للمحكمة المدنية بدعوى إفلاس تتوقف معها كل الدعاوى، وإذا ما نجح في إثبات دعواه تطلق المحكمة سراحه وتعين مديراً للتفليسة و ترفع يده عن كل أمواله في الرصيدين الإيجابي والسلبي، وفي هذه الحالة يستطيع المتهم أن يتقدم بطلب إعسار داخل التنفيذ وإثبات عدم قدرته على سداد المديونية، وفي حال ثبوت إعساره تصدر المحكمه قرارها بإعساره ويتم إطلاق سراحه، وأشار إلى أنه من الممكن جداً ألا يحرك الدائن ملف التنفيذ وذلك من أجل الضغط على المدين وإبقائه أطول فترة بالسجن، وهذا الضغط أيضا على أسرة ومعارف المدين، ولكن يستطيع المدين أن يقوم بتقديم طلب إعسار لذات محكمة التنفيذ حتى في حال عدم توالي الجلسات، وفي هذه الحالة تقوم المحكمة بإعلان الدائن للرد على طلب المدين، وتستمر المحكمة في محضر الإعسار وتنتهي بقرار ثبوت إعسار المدين و إطلاق سراحه أو أنه مدين معسر ومتهرب من السداد، وتأمر بمواصلة حبسه علي ذمة التنفيذ في حالتي الإفلاس أو الإعسار، ولا تسقط الديون وإنما متى ما ظهرت للمدين أية أموال يمكن التنفيذ عليها وهي لا تعدو ـن تكون تنفيذاً لتوجيهه تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ).


بواسطة : admin
 0  0  4250
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 02:30 صباحًا السبت 27 أبريل 2024.