• ×

د. عبد اللطيف البوني يكتب : الوزارة المنهوشة !

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية الأستاذ السفير والوزير الراحل علي سحلول، كان وكيلاً لوزارة الخارجية في فترة الديمقراطية الثالثة، حيث عندما كان السيد الصادق المهدي رئيساً للوزراء. وبعد دخول الجبهة الإسلامية القومية في إحدى حكومات الصادق تم تعيين الدكتور حسن الترابي عليه رحمة الله وزيراً للخارجية، وكان لسحلول توجه سياسي مناقض للترابي لكنه توجه لا يقف حائلاً بينه وبين المهنية التي نشأ عليها.
قال سحلول إنه أيقن أن لا مكان له في الوزارة مع الوزير الجديد ولكنه قرر الاستمرار إلى حين أن يُطلب منه المغادرة فمرَّت الأيام الأولى بسلام ولم يتدخل الترابي في عمله. دخل على الترابي وهو يحمل كشف التنقلات والترقيات، فسأله لماذا أحضرته لي، فقال له: لإبداء وجهة نظرك، وأخذ الأوامر ثم التوقيع، فقال له الترابي: هذا ليس عمل الوزير إنما عمل الوزارة الذي ينتهي عند الوكيل، فالوزير هو مجرد حلقة وصل بين الوزارة والحكومة والحكومة هي التي ترسم السياسات وتجيز الميزانية والذي منه.
مناسبة هذه الرمية هو أنه قد صدر في الأسبوع الماضي قرار جمهوري يعيد توزيع الاختصاصات في وزارة الداخلية وذلك بإعطاء مدير عام الشرطة المزيد من الصلاحيات على حساب الوزير، وقد فسر المراقبون ذلك بأن الحزب الحاكم أراد أن يمنح وزارة الداخلية لأحد شركائه الجدد لذلك أخرج منها بيت الكلاوي وتركها لمهام أقل أهمية، فإن كان ذلك كذلك تصبح "الشغلانة قلبة في شكل حركة أو لعبة في شكل وردة"، كما يقولون، ويصبح الدافع غير حميد ولكن دعونا ننظر للموضوع من زاوية أخرى زاوية تقوية جهاز الدولة على حساب الحكومة على أساس أن وظيفة الدولة أي الخدمة العامة قائمة قواعد موضوعية تقوم على المهنية البحتة، أما الحكومة التي يمثلها الوزير فهي جهاز سياسي متغير جاء به الشعب ليضع السياسات العامة ويراقب تنفيذها ولا يتدخل في عمل الدولة.
إذا أردنا ما ذهبنا إليه أعلاه، فيجب أن نُقِرَّ ما حدث لوزارة الداخلية التي نهشت أمعاءها لمصلحة موظف الدولة، ونطالب أن يحدث نفس الشيء لوزارة الخارجية بأن تُقلَّص صلاحيات الوزير وترجع للوكيل صلاحياته القديمة، فلا يتدخل الوزير في التعيينات والترقيات والتنقلات والذي منه، ثم يحدث نفس الشيء لوزارة الدفاع ليكون وزيرها وزيرا مدنيا وتصبح هيئة الأركان هي التي تُدير شؤونها مع القائد العام، وتصبح مسؤولية القائد الأعلى إعلان الحرب، وهكذا يحفظ للخدمة العامة بشقيها المدني والعسكري كمستودع للخبرة الفنية مكانتها وتعمل بالقوانين الموضوعية التي تنظمها، ويصبح الوزير مجرد سفير بين رئاسة الحكومة والوزارة، يحضر السياسات التي تضعها الحكومة المنتخبة ويراقب تنفيذها ويحضر لها ميزانيتها ويكون مسؤولاً عن الأداء أمام رئاسة الحكومة والبرلمان، وبذا ترجع للوزارة هيبتها وللخدمة العامة نزاهتها وحيدتها وتصبح الشقافية ديدن الطرفين.
بالطبع هذا التصور الذي عليه كل العالم الديمقراطي اليوم يُفترض أن يكون جهاز الخدمة العامة (البيروقراطية) بعيداً كل البعد عن السياسة وأن تكون تراتبيته محفوظة ومحصناً بالقوانين التي تبدأ بالتعيين ثم التدرج والترقي والعقاب والتحفيز والذي منه دون أي تدخل من أي سياسي "إلا تبقى الحكاية كلها عواسة في عواسة".


بواسطة : admin
 0  0  1154
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 12:54 صباحًا الجمعة 17 مايو 2024.