السودانية سجن القدمبلية هو سجن خارج مدينة القضارف بمنطقة القدمبلية الزراعية وهنالك سجن آخر شبيه هو سجن القبوب ، وهما بخلاف سجن القضارف الرئيسي . سجن القدمبلية يسمى بالزريبة ربما لأن سوره مبني من كتر وشوك وسلك شائك فيما يشبه الزريبة ، أو ربما لأن النزلاء فيه تتم معاملتهم كما البهائم .
يستند هذا التقرير على إفادات مساجين بسجن القدمبلية في يناير الماضي حيث حل بالسجن أكثر من مئة سجين بعضهم من القضارف ، وأغلبهم محولون من سجن أمدرمان .
كان أغلب المساجين بزريبة القدمبلية مدانين في السكر ولم يستطيعوا دفع الغرامة 300ج ، وربما لم يسطيعوا شراء السوط من ود اللواء ب20ج ، فتم نقلهم بضربة ثابتة من محكمة جنايات القضارف إلى زريبة القدمبلية .
ومصطلح "شراء السوط" يعني أن تدفع للجلاد 20 جنيها ومن ثم تنال جلدا مخففا رقيقا ، أما مصطلح "ضربة ثابتة" فيعني أن المدان يتم نقله من المحكمة إلى زريبة القدمبلية أو القبوب مباشرة دون المرور بسجن القضارف .
عقوبة تعاطي الكحول 40 جلدة و300ج غرامة وفي حالة عدم الدفع شهر سجن ، وعقوبة سجارة البنقو أو الشاش مليون جنيه غرامة وفي حالة عدم الدفع شهرين سجن . وعليه فإن الفقراء وحدهم هم الذين يصلون إلى سجن/زريبة القدمبلية .
ينوم المساجين في سجن القدمبلية على أرض ناشفة (بادوبة) حيث لا يوجد أي نوع من أنواع الفرش ، والذي يحصل على جوال خيش فهذا يكون من المرفهين . فقد ظل أحد السجناء ينام على البادوبة لمدة 11 يوم ، إلى أن ورث جوال خيش من أحد المساجين بعد الإفراج عنه . أما في سجن القضارف فالأرضية بلاط وهنالك إمكانية الحصول على مرتبة بمساهمة من الخارج أو بالمال .
يأكل المساجين بسجن/زريبة القدمبلية "الجراية" ، و"الجراية" هي خبز غير مستساق مصنوع من الذرة ، يأكله المساجين اضطرارا مع قرع غالبا أو فول رديء ، إذ أن الخيار الآخر هو الموت جوعا .
إن الحصول على حمام أو غسيل الملابس حلم بعيد المنال في سجن القدمبلية ، بل وحتى في سجن القضارف العمومي لو لم يكن لك من يساعدك من خارج السجن وليس لك مال فلن تستحم ولن تغسل ملابسك ، وقد وصل سعر باقة الموية بحمامها ـ في سجن القضارف ـ إلى 5جنيهات هنالك مساجين لاستلام المبلغ وتيسير الحصول على الماء والحمام ، وبمالك تستطيع أن تجد خدمة الغسيل والمكوة ، وتستطيع أن تأكل ما تشاء ، وتشرب الشاي والقهوة من بعض المساجين الذين يبيعونهما داخل السجن وهم بلا ريب شركاء لآخرين . في سجن القدمبلية النائي هذه أشياء بعيدة المنال .
العمل سخرة:
يأكل المساجين بسجن/زريبة القدمبلية "الجراية" مع قرع أو فول رديء عند الخامسة صباحا ، ثم يذهبون إلى العمل في الزراعة في مشارع مزارعين كاستثمار ، علما بأن المساجين يعملون سخرة دون أجر ، ويتناول المساجين بعد العودة من العمل الشاق بالمشاريع ، عند الثانية عشرة ظهرا ، الجراية مع القرع ، ولا يرى المساجين اللحم بعيونهم أبدا .
وحدث في منتصف يناير الماضي أن لدغ ثعبان أحد المساجين ، اسمه "هشام" ، من منطقة حجر الطير . أثناء قطع العيش كان "هشام" يحمل قفة عيش إلى التقا ، لدغه الثعبان عند حوالي الساعة 11 صباحا ، ولأنه لا توجد أية عربة ، ناهيك عن عربة إسعاف ، فقد تم الاتصال بتاجر للمساعدة في إيصال السجين اللديغ ، وكإسعاف أولي تم ربط رجله أعلى مكان اللدغة وتم سقيه خليط من عصير الليمون والملح ، وصلت عربة التاجر بعد أكثر من خمس ساعات من اللدغة ، عند الرابعة والنصف عصرا ، وقيل أنه وصل مستشفى القضارف عند منتصف الليل ، ولم يعد للسجن مرّة أخرى ، ووصلت أنباء متضاربة إلى المساجين بالقدمبلية بعضها يقول أنه مات والآخر يقول أنه حي وعاد إلى أهله .
مستشفى الزريبة:
إذا كنت مريضا لا تقدر على العمل يربطونك بقيد في دنقل عربية (مستشفى سجن الخلا) وتظل مكلبشا في دنقل العربية إلى أن يفرغ بقية المساجين من عملهم في المشاريع . ويقول السجانة (زول يبلغ لينا عيان مافي .. دي مستشفانا) .
وحدث في يناير الماضي أن السجين "قبرو" من أم قلجة كان مصابا في يده اليمينى، جراء الضرب ، وتقيحت جروح يده حتى أصبح جرحه مقززا ، إلى درجة أن المساجين لا يستطيعون الاكل معه ، لاحقا هرب "قبرو" لينقذ نفسه من مصير مجهول .
وعندما يطلق سراح السجين لا يوصلون السجين المفرج عنه إلى المدينة ولا يعطونه نقود لزوم المواصلات فيضطر إلى السير مشيا على الأقدام حوالي 4 ساعات من سجن الزريبة النائي حتى يصل إلى شارع الأسفلت ، ثم ينتظر سيارة تقله إلى وجهته .
هذا الواقع المأساوي ليس في سجن/زريبية القدمبلية وحده ، بل أن سجن القبوب أشد سوء وخطرا ، إذ أن هنالك بجانب العمل في الزراعة يتم تشغيل المساجين في قطع الأخشاب من الغابة .
جدير بالذكر أن هنالك منظمة تسمى "المنظمة السودانية لرعاية النزيل" ، والتي لها فروع في مختلف ولايات السوداع بما فيها القضارف ، والتي أحد أهم أغراضها تحسين الوضع الإنساني داخل السجون ، وتأهيل وصياغة النزيل تربوياً واجتماعياً ، والعمل على النهوض بمستوى المؤسسات الإصلاحية خدمياً وعمرانياً ، والعمل على تطوير وترقية أداء العاملين بالمؤسسات العقابية ، وتقديم خدمات صحية وتعليمية واجتماعية للنزلاء مع توفير المأوى والكساء والغذاء والدواء لهم.
وقد تلقت المنظمة السودانية لرعاية النزيل خلال السنوات الماضية دعما من: منظمة العون البريطاني الإسلامي ، و الهيئة الخيرية العالمية الاسلامية ، ومنظمة قطر الخيرية ، والهلال الاحمر السعودي ، ومنظمة السلام العالمية ، وديوان الزكاة ، والبر والتواصل ، وصندوق الدعم الكويتي الخيري ، ومنظمة الرعاية والاصلاح ، وهيئة الاغاثة العالمية ، وجمعية مسلمي افريقيا ، ومنظمة سبيل الرشاد ، و منظمة ذو النورين ، وشركة النيل للبترول ، وشركة الكهرباء ، والمفوضية السامية للاجئين ، وفندق السلام روتانا ، واليونيسف ، و CHF ، و RSS .
لكن واقع سجن القدمبلية ـ الذي تنتهك فيه آدمية الإنسان ـ يُغني عن السؤال ، فأين ذهبت كل أموال منظمة النزيل هذه ؟ وقبل ذلك أين تذهب محاصيل المشاريع الزراعية التي تتبع لإدارة السجون والتي يزرعها المساجين ؟ وأين يذهب الدخل الذي يتم تحصيله مقابل عمل المساجين في المشاريع التجارية ؟
إن إهانة وتعذيب واستغلال السجناء وصمة في جبيننا جميعا .
جعفر خضر