• ×

مملكة (الشحادين) بالعاصمة القومية...حكاية إخوان (الراسطة).. و(حسناوات) مواقف المواصلات!!

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الخرطوم ـ السودانية 
كنت على عجلة من أمري وأنا وسط ضجيج وزحمة (السوق العربي) بالخرطوم، عندما استوقفتني وهي تسألني بصوت خافت: (لو سمحتي ممكن تساعديني؟!) لم أستوعب في بادئ الأمر ما تريده مني لأنني كنت أقف أمام فتاة ذات ملامح جميلة وقوام ممشوق تضع على وجهها (ميك أب) خفيفاً وترتدي ثوباً جديداً وجميلاً.. تفحصتها من رأسها وحتى أخمص قدميها ثم سألتها: (يعني عايزة شنو؟) ردت بلغة فيها الكثير من التعجرف وهي تقول لي: (كلامي واضح.. يعني حاكون دايرة شنو؟ دايرة قروش.. لو ما عندك ما تتفلسفي علي واقطعي وشك مني).. حقيقةً اندهشت وأصبت بصدمة ولم أدرِ بنفسي إلا وأنا قد استقللت المركبة التي تقلني إلى مكان عملي، وفي ذهني تدور مئات التساؤلات لما وصل إليه الحال في بلادي بسبب الفقر والحاجة الماسة للمال، ولعل هذا ما دعانا لإجراء هذا التحقيق الذي يغوص في (مملكة الشحادين)، لمعرفة ما يدور بين خباياها من قصص أبطالها من النساء والأطفال الصغار، وأخيراً ظاهرة الفتيات اللائي يتصيدن ضحاياهن من الرجال لكسب تعاطفهم بما يملكن من جمال باعتبار أن الجمال هو المفتاح الحقيقي الذي من خلاله يستملن قلوب الرجال ويصلن إلى هدفهن المادي الذي خرجن بسببه إلى الشارع.
فئات مختلفة:
الملاحظ للشارع السوداني العام يجد أنه يشهد انقساماً لـ(الشحادين) إلى فئات كل حسب توجيهات الجهة التي أوكلت إليهم الأمر وذلك يتحدد من خلالها نوع الشخص المستهدف، سواء كان شاباً أو فتاة أو طالباً أو رجل أعمال أو مريضاً.. ليكون السيناريو كالآتي: في حالة ظهور شاب وبرفقته فتاة على الشارع العام تطل على المشهد فتاة ذات تسعة أعوام أو أقل، وهي تمسك بثياب الفتى أو الفتاة وهي تردد: (عليك الله ساعدوني.. ربنا يعرس ليكم ويديكم الفي مرادكم وتتهنا بيها وتتهنا بيك ما يخش بيناتكم عدو يارب). ومشهد آخر: مرور رجل طاعن في السن يحمل بين يديه كيساً فيه بعض الأدوية والعلاجات ليتم استدرار عطفه بالطريقة الآتية: (ربنا يشفيك ويديك العافية وما تضوق الألم ويغادرك السقم بجاه نبيك وحبيبك المصطفى).. ومشهد ثالث: على شارع الإسفلت ومن بين العربات التي توقفت بأمر شارات المرور تطل من بينها امرأة رثة الملابس تقود رجلاً أعمى وهي تطرق زجاج العربة طرقاً خفيفاً قائلة: (إن شاء الله ربنا يفتح ليك وتجيب عربية همر والناس تأشر ليك قشة ما تعتر ليك) وهكذا..!
قوة عين:
الآن طفت على السطح ظاهرة أخطر في تلك المملكة الممتدة المليئة بالأسرار والخبايا، وهي ظهور فتيات جميلات تتراوح أعمارهن ما بين العشرين والثلاثين وهن يخترن أماكن قصية في المساحة الفاصلة ما بين موقف (شروني) و(جاكسون) بالقرب من (قمرات) القطار المتوقفة والمتعطلة حيث تقبع بينها الفتيات (المتسولات) بمسافات متساوية وأماكن أخرى بالعاصمة، ثم يرمين بشباكهن للشخص المستهدف وهن في كامل الأناقة من هندام ومكياج فيتحصلن على مبتغاهن دون كد أو عناء، وهنالك العديد من القصص والروايات الواقعية التي سيرويها لنا بعض من أهل (الكار) أنفسهم مع ذكر الأسباب التي أدت لولوجهم هذا المجال.. والفئة الأخرى من أفراد المجتمع فلنرَ ما قالوا.
أهل الكار:
أول من التقيت بهم أطفال صغار في السن تتراوح أعمارهم ما بين السابعة والحادية عشرة بالقرب من موقف المواصلات المؤدية إلى مدينة بحري. بدأت الحديث مع الأول ليأتي الثاني والثالث والرابع والخامس ليتحلقوا حولي، فكانت إجاباتهم مختلفة.. قال الطفل الأول واسمه سامي: (أنا طلعت من البيت بعد ما أبوي طلق أمي وتزوج مرة تانية بقت تضربني وتقول لي اشتغل عشان تعتمد على نفسك لحدي ما طفشت من البيت وبقيت لافّي في الشوارع ولقيت الشلة دي وبقينا فرد للآخر، النهار كلو نشحد وفي الليل نتقاسم القروش، لكن في واحدين كعبين ما بطلعوا القروش كلها لكن أنا عايش هنا أحسن من البيت وهم مرتاحين ناس بيتنا لأنو ما فتشوني وسألوا عني).. سريعا التقط قفاز الحديث الثاني وهو يقلب بين يديه بعض النقود (فكة) وهو ملقب بـ(الراسطة) تحدث قائلاً: (أنا لي سنتين حايم في الأسواق والمواقف أمي وأبوي ماتوا في الجنوب ما عندي أهل... لقيت راجل عمك كبير كده قال لي أنا بقعدك معاي في البيت لكن تمشي تشحد وتجي آخر اليوم نقسم القروش بيناتنا وفعلا وافقت ولقيت معاهو أولاد صغار كتااااار لكن ما أولادو كلهم بجوا البيت في الليل ويدوهو القروش كلها.. ويدينا النص ويفرش لينا فرشة كبييييرة ننوم فيها والصباح أي زول يشتت).. قبل أن أستفسر أكثر فاجأني أصغرهم وهو يقول لي: (أنا مع الراسطة في بيت واحد، لكن مقسمين هو في موقف بحري وأنا موقف الحاج يوسف).. سألته: أهلك وين؟ رد: (قاعدين في مايو لكن أمي ميتة ونحنا حداشر أخو... وأبوي بيجي البيت سكران يوميا وبكسر الحاجات كلها وبيضربنا ومرة ضرب أخوي المتوسط لحدي ما كسر يدو، لكن أنا شردت عشان ما يعوقني ولفيت كتير وقبضوني كتير لكن لقيت ناس الراسطة ديل وبقينا أخوان نتشاكل ونتصالح ما في مشكلة وتاني ناكل وننوم كلنا سوا).. قبل أن أوجه سؤالي للأكبر سِنّاً منهم قاطعوني جميعهم: (عندنا زمن محسوب شوفي غيرنا)، ثم أطلقوا سيقانهم للريح بحثاً عن من يمنحهم المال حتى يفوا بالالتزامات المالية التي كُلّفوا بها وإلا باتوا في العراء.
احتيال معلن:
حاولت وبكل إصرار أن أواصل البحث والتنقيب أكثر، وهذه المرة مررت خصيصا بامرأة شاهدتها كثيراً ولفترات متباعدة في الإستاد حيث موقف المواصلات وهي تحمل أوارقاً في يدها وتستوقف المارة وهي تردد: (عليكم الله ساعدوني أبونا عيان.. الله يساعدكم).. وبالفعل وصلت بالقرب منها فالتفتت إليّ و قالت لي ذات الشيء الذي قالته للسيدة الأولى، فطلبت منها الورق الذي تحمله حتى ألقي عليه نظرة، فقالت لي بعد أن قطّبت حاجبيها: (ضروري)؟.. أجبتها: نعم.. فأعطتني إياه وهي تنظر إليّ بامتعاض شديد.. فتفاجأت بأن الورق نتائج فحوصات لامرأة بتاريخ 2442010، فسألتها: منذ متى زوجك مريض؟.. قالت: (ليهو شهرين يعلم الله بس دايرين ميتين جنيه للدواء)، قلت لها: لكن أنا من زمان شايفاك شايلة ورقك ده في كم حتة، على العموم ربنا يشفيه، وغادرتها سريعاً خوفاً من ردة فعلها، ورغم ذلك لم أسلم من شرها وهي تكيلني بالشتائم التي لاحقتني بها دون حياء، فتركتها ولم أرد عليها لتواصل رحلة الاحتيال المعلن رغم أنف الصادين لها.
فن (الشحدة):
في هذا الجانب تحدث العم عبد الماجد حسن، وهو بائع خضار في السوق العربي قائلاً: (يا بتي النسوان الشحادات ديل ملن الواطة بقينا ما بنعرف المحتاج من الما محتاج، مرات بتلقى الواحدة خاتة الحنة سوداء ومدخنة وشايلة ليها طفل وبتشحد!!.. وفي نسوان نحنا عارفينهم بناخد منهم الفكة عندهم قروش كتيرة بيجتمعوا نص النهار تحت ضل الشجرة دي مع أولادهم.. الأم تشيل منهم القروش وترسلهم في اتجاهات مختلفة والشغلة ماشة معاهم ونحن الفارشين خضارنا في الشمس دي من الصباح للمساء ما بنجيب ربع البيجيبوه الشحادين في ساعات)!!!.
عطالة وجريمة:
خالد ناصر الفكي -طالب بجامعة الخرطوم- أرجع الظاهرة إلى التردي الاقتصادي المريع الذي تشهده البلاد من فقر وعطالة وعدم توزيع فرص العمل بالنسبة للخريجين، بالإضافة للضغوط الأسرية التي قد تلعب دوراً مهماً فيما يحدث، واتفقت معه في ذات الرأي الموظفة سارة الطاهر قائلةً: (أصبح وجود (الشحادين) والمتسولين في الشوارع أكثر من نسبة الناس في الشوارع، لأن الظروف الاقتصادية المتردية تولدت بسببها العطالة والجريمة، وغيرها من السلبيات، لأن الأسر ذات الدخل المحدود والمهن الهامشية لا تستطيع أن تواكب موجة ارتفاع الأسعار الجنونية التي تتفاجأ بها كل صباح لذلك فالدولة هي المسؤول الأول فيما يحدث).
استفحال الظاهرة:
رحاب عبد الملك سليمان -موظفة بوزارة المالية- قالت: (لقد تمدد المتسولون داخل العاصمة وأطرافها بصورة مقلقة للغاية، وبكثافة تعطيك الإحساس بأن الغالبية العظمى من أفراد الشعب السوداني فاقدة للمأوى وأصبحنا نستحي ونحن نتعرّض يومياً لـ(جرجرة) الثياب من النساء المتسولات، وهن يلححن بإعطائهن مالاً يقيهم شر الجوع والمرض وهذا انطباع سيئ وينبغي على الجهات الرسمية المعنية بالأمر أن تجد الحلول والمعالجات لهذه الظاهرة، التي كادت أن تستفحل لتعكس وجهاً مشوّهاً للسودان الذي عرف أهله بالكرم والكرامة).
انفلات أخلاقي:
كان لا بد من استصحاب رأي أهل الاختصاص حول هذه الظاهرة.. فكانت لنا وقفة مع الباحثة الاجتماعية بجامعة السودان منى الفاضل التي قالت: (ظاهرة التسول مرتبطة بجوانب مختلفة في المجتمع منها التربية والأسرة والوضع الاقتصادي وغيرها من العوامل المؤثرة في شخصية الفرد، وهنا حالات تفر من رعاية الأسرة بعد أن تفقد الدفء الأسري في أجواء مشحونة بالمشكلات والصراعات التي تشرخ ما بني على ود واحترام، بأن يكون الأب شرساً في التعامل مع أبنائه أو يكون معاقراً للخمر، والأم غير مسؤولة، فتصبح الأسرة منحلة فيهيم أبناؤها في الشارع)، مواصلة: (كما أن هناك ظروفاً اقتصادية أخرى تجعل المرأة تخرج إلى الشارع، بسبب غياب الزوج أو موته وقلة الحيلة تجعلها تلجأ للتسول وهو حيلة العاجز.. أما بالنسبة للفتيات اللائي انتشرن في الشوارع كمتسولات فأغلبهن غير محتاج، إنما في الأمر مآرب أخرى، ليكون ضحاياهن من الرجال أو العكس وهذه الفئة من النساء غير حريصة على نفسها ولا على أسرتها، ويمكنها أن تفعل أيّ شيء مقابل أن تتحصل على مال، وهو باب يؤدي للدعارة، لذا أدعو الدولة ممثلة في الجهات المعنية بالأمر، لأن تقوم بدورها على أكمل وجه لمحاربة تلك الظواهر بتوفير فرص العمل وتوعية الأسر في التربية وضرورة وأهمية الإرشاد النفسي لهؤلاء الأطفال الذين أصبحوا في مهبّ الريح، لأن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، وربما ينتقل إلى الجريمة بأنواعها المختلفة من قتل وسرقة ونهب وممارسات لا أخلاقية نحن في غنى عنها).
محاسن أحمد عبد الله ـ السوداني




بواسطة : admin
 0  0  1382
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 07:54 مساءً الجمعة 26 أبريل 2024.