• ×

عزمي بالخرطوم بعد سنوات من الغربة (حلوة الصدفة البيك جمعتنا)

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية ـ متابعات البلبل المغرد الشاعر عزمي أحمد خليل يعود لتراب وطنه بعد غربة دامت سنوات" هذا نص الخبر الذي يجب أن يعرفه معجبو عزمي وأصدقاؤه في السودان.. ولكن هنا دعونا نتلمس بعض شاعرية عزمي الفذة ونسترجع جانباً من مشوار إبداعه الذي ابتدره مطلع السبعينيات.
لم يكن (عزمي أحمد خليل) يكتب قصائده كما يفعل الشعراء من مجايليه على كثرتهم، بل كان يرسم لوحة ناطقة بالكلمات، ولهذا كان متفرداً ليس في النظم، إنما في ابتكار مفردات ومعاني قصائده التي شكلت حالة خاصة في الوسط الفني، فاستقبلها بعناق حار وحفاوة غير مسبوقة لما تحمله من مضامين واتجاهات ضمت بين العاطفة الصادقة والفكر الفلسفي والتحرر الوجداني من الكبت المجتمعي الذي عُرف به المجتمع السوداني دون غيره. و(عزمي) الذي درس (الفلسفة والمنطق وعلم النفس) في جامعة القاهرة - فرع الخرطوم - استطاع مزج هذه المعارف الأكاديمية بالثقافة المحلية والموروث الشعبي ليصنع منها دُرراً غنائية جعلت منه حادي الشعر الوجداني والهزائم العاطفية بامتياز!
كنا دايرينك معانا إلا أبيت طريقنا/ ولسه ما قادرين نسيبك وانت سبته الريح تسوقنا
قالوا يوم سألوك علينا لألأ في خدك شروقنا/ وقالوا زي داريتو شوقك
وشوف غلبنا نداري شوقنا / وشوف نجمنا كمان ظلمتو ولسه نجمك ضاوي فوقنا.
التكيف مع أجواء العاصمة
دون عناء تمكن (عزمي) القادم من أقصى شمال السودان، التكيف مع أجواء العاصمة وهي في أوج غنجها في حقبة السبعينيات من القرن المنصرم، وكغيره من مثقفي تلك الحقبة الذين جاءوا من الأرياف تمدن بالكامل، ولم يبق له من ريفيته إلا طيبته وابتسامة أهله الذين طوع معاني أحاديثهم العذبة في أشعاره المبهرة، بحسب قوله: "كنت آخذ من أحاديث الناس في الشارع وأطوعها في مفردات أغنياتي، ولهذا عندما يستمعون للأغنية يجدونها قريبة منهم لأنها جزء من مفرداتهم وأحاديثهم، فيتشبثون بها ويحفظونها على ظهر قلب"..
مـا اتـعــودت أخــاف مــن قـبـلـك إلا معاك حسيت بالخوف/ أعـمــل إيـه ما القسمه اختارت وكل الناس حاكماها ظروف!
عــارف ويــن خطواتك ماشه وآخري معاك هو الما معروف/ يـامــا كـتـيــر فـكــرتـه أصــارحــك واستـنـيـتك تبدأ السيرة
لا أتكـلــمــتــه ولا لـمــحــتــه ولا بـيـنـتــه الـريـــدة مصيرة/ والحـنــيــه الكـنــت بـديــتــهــا هـســع بـقــت بتشوفه كتيرة
وزي خليتني أشك في ريدتي وخفت تكون مشغول بي غيرة/ أنـا مـن قـبـلـك مـا اتـحـيرت جيت وريتني دروب للحيرة
والمتأمل لمبتدأ مسيرته يجد أنه ابتدرها بالتقرب للنظام المايوي كمعظم شعراء وفناني وأدباء تلك الحقبة الذين ظنوا أنهم عثروا على ضالتهم في الثورة المايوية التي بدأت يساريه منفتحه على كافة ضروب الإبداع مما شجعهم على الالتفاف حولها والتغني بمجدها وخلودها، كما وصفها أحدهم في غمرة الهتاف "يا حارسنا ويا فارسنا/ كنا نبحث عنك وانت الليلة جئت كايسنا".
ومن المفارقات أن الذاكرة المايوية لم تحفظ لـ (عزمي) من ذلك الانتماء إلا النزر اليسير، ولكن ذاكرة الشعب حفظت غزلياته التي توشح بها الفنان (هاشم ميرغني) دون غيره من الفنانين الذين لم يعدم بعضهم شرف مشاركته في ينبوع غرام (عزمي) المتدفق.
إرساء مدرسة التفرد
المتأمل لشاعرية (عزمي) من جوانبها المتعددة، يجد أنه استطاع ترسيخ دعائم مدرسته المتفردة في شعر الغزل على منوال كان غيره يهاب علانية الخوض فيه لقربه من ما يطلق عليه الانهزام الوجداني أو العاطفي، الذي كان يُواجه بحرب ضروس من كثيرين يتقدمهم الشاعر (محجوب سراج) الذي جاهر بثورته على الهزيمة العاطفية في معظم قصائده التي منها رائعته الجُرح الأبيض، ومطلعها:
لو نعيم الدنيا عندك أحرميني/ ولو جحيم الأخيرة ملكك عذبني/ أن يا ضنايا يا أشواقي الحزينة جُرحي أصبح ما بسيل لو تجرحيني
لكن (عزمي أحمد خليل) خالف هذا الدرب واختار منهجه الشعري الذي عُرف بشعر (المشوكشين)، وهو وصف(دارجي) ينطبق بالحافر على شعر (عزمي) الذي يعترف:
والله عـشــانـك يـا مــا صـبـرت لـمـا الصبر فتر من صبري / ولـمـا نـسـيــت الـدنــيـــا وحاتك من أعمارنا سنينها بتجري
لا اتـلـومـتــه مـعـاك لا لـمـتـك وقلته براك بتحـس بي قدري/ وقـلــت عـلـيـك بـكـره بتتغير وألقى في ريدك فرحـة عمري
إلا لــقـــيــــتـــك لـســع تـايــه فـي دنـيـــاك ومـتـــوه أمـري/ كـم حــاولــت أعــانــد ذيـــك واقـســى عـلـيـك بكـلمة شويه
إلا وحــاتــك غـصـــبـــاً عـنــي قـبـــل عـنــادي تجـي الحنية
هذا هو المنهج الشعري لـ (عزمي) الذي لم يغيره قط حتى أصبحت كل قصائد الانكسار العاطفي تنسب له، وهو القائل: "رجيتك وفي انتظار عينيك كملت الصبر كلو/ أنا وأشواقي والساعة معادك جينا من قبلو
لمن راح زمان جايتك وطال في دربي ما طلو/ شفقتك عليك من السكة دموع عيني وراك كملو
قبل ما كنت جاييني كنت تغيب واتودر/ عشان ما بتنسى ذكرتك وقلت براك بتتذكر
ما خليت قلب فيني عشان ما قولت تتأخر/ يعني أقول نسيتني خلاص وحاتك الله لا قدر
رجعت وأسفي في عيوني ودرب الرجعة ما عرفتو/ وكل الجبته من أفراح فارق دربي يوم فوتو
حالي البيا أصبح كيف اريتك جيت براك شفتو/ وحاتك ما بالومك يوم حتى لو ميعادنا أخلفتو
شاعر المواعظ والحكم
ومهما يكن من شيء، لا يمكن الطعن في شاعرية (عزمي) الذي حلق بالعاطفة بعيداً على أجنحة الحرف المموسق والشجى، وارتاد بها فضاءات الخلود الأبدية في وجدان المستمع الذي تعلق بتلك الأشعار التي مزجت بين الحكم والمواعظ.
مـا اتـعــودت أخـاف مــن قـبـلـك إلا معاك حسيت بالخوف/ أعـمــل إيـه ما القسمة اختارت وكل الناس حاكماها ظروف.
ويكاد (عزمي) أن ينثر الحكم والمواعظ والأمثال في كل قصائد المغناه وغيرها "حلوة الصدفة البيك جمعتنا/ وخلت عيني تلاقي صباحه/ وذي ما قالوا الصبر جميل/ جنينا صبرنا بعد شقاء راحة". هذا المسالك غير المسبوق في صياغة الغناء جعل أشعار (عزمي) تجد مكانتها الريادية في الساحة منذ أول ظهوره: "ولمَّا نحنا بدينا ريدنا أصلو ما قايلين بنشقى/ كنا قايلين قدري نيتو كلو زول في الدنيا بلقى/ تاري لمَّا دروبنا لمَّت لينا كانت خاته فرقة/ واصلو ما قايلين حنانك يازمن بنشيلو حرقة.
ألف مرحب بالشاعر الذي تقاذفته أمواج الحب والغربة في آيكة الوطن الوارفة
محمد عبد الباقي ـ اليوم التالي


بواسطة : admin
 0  0  2388
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 11:41 صباحًا الإثنين 29 أبريل 2024.