• ×

الأزمة الإقتصادية تستهدف في المقام الأول المواطن البسيط.. فمن المقصود بالصبر و(الإنكراب)؟

ما بين حديث الرئيس وغندور ومهدي ابراهيم

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
بقلم أبوعاقله محمد أماسا قياداتنا الاجتماعية والسياسية بطبيعتها لا تقرأ ولا تكلف نفسها نظرة لصفحات كتب التأريخ حتى تتعلم وتستنبط العبر والمواعظ في ممارستها السياسية، وكلما احتار الناس حيال ما يجري في الساحة السياسية، ويسيطر على المسرح جيشاً من الإستفهامات والألغاز، فإن الحكماء من ابسط ابناء الشعب يطلعون فقط على تصريحات المسؤولين في الصحف اليومية، وهي أصدق أنباء من الكتب، وتعكس الكثير مما يجري بعيداً عن الأنظار وفي الكواليس، ومن خلالها يعرف بفطنته وذكاء السياسي الذي أجبره الواقع والاحداث على اقتحام المسرح السياسي كل ما يحدث في المطبخ السياسي من أحداث تجتهد الحكومة في إخفائها لخدمة أجندتها وإحاطة قضايا التماس السياسي بجدار من السرية خدمة لاستراتيجياتها، ولكن التصريحات الكثيرة تكشف النقاب عن معلومات في غاية الخطورة بين سطور حديث عادي يمكن أن يدلي به أحد المسؤولين في لحظة تجلي وصراحة وهو يرتشف كوباً من القهوة ابتداءً بما يجري في مكاتب القصر والبرلمان وحتى ما يجري هناك في ميادين الحرب متعددة الجبهات، والسبب في ذلك أن كل السياسيين في بلادي يعملون بماكينة واحدة من حيث التصميم، ولكنها تختلف في بعض التفاصيل الهامشية، ويتضح ذلك في التباين الذي يطالعنا في كل مرة عندما يتبارون في إطلاق التصريحات في قضية معينة أو عندما يرغب الواحد منهم في تشغيل ماكينة المسؤولية ويستعرض سطوة السلطة في وجه الآخرين فيتحدث عن عدد من القضايا المصيرية التي تتطلب إظهار وجه واحد للحكومة من المفترض أنه يطمئن الشعب على وحدة الجبهة الداخلية وان كل شيء يمضي على ما يرام، ولكن في كل مرة هي مصدر القلق، ربما يكون المقصود بها أحياناً فرد واحد غير مؤثر في صفوف المعارضة، ومفعولها يمتد لعشرات الآلاف من المواطنين البسيطين، كل يتخيل أنه المقصود بما بتلك التصريحات وليس أي أحد غيره، وإن كانت تحتوي على كلمات مستفزة أو متعالية يسري مفعولها سريعاً لأن السودانيين بمختلف ألوانهم تتشابه طبائعهم وسرعة إنفعالاتهم وابداء ردود الأفعال كذلك حتى في المجال السياسي الذي يتطلب الكثير من البرود، مثال لذلك ما حدث قبل أيام من تناقض بين تصريحين كان الأول لرئيس الجمهورية قال فيه فيما معناه: أن الشعب السوداني قد حدد هويته السياسية واختار موالاة الإنقاذ بنسبة كاسحة في الإنتخابات الأخيرة ومنحوها بذلك شرعية الحكم وإدارة شؤون البلاد، هذا الحديث تم نسخه بطريقة مدهشة بتصريح آخر أطلقه غندور أمام جمع من الزملاء رؤساء تحرير الصحف السياسية في مقر إقامته تقريباً، حيث قال: أن 80% من الشعب السوداني لا علاقة له بالسياسة وغير مهتم بها، وقد كان حديثاً لافتاً للأنظار لأنه جاء من مسؤول كبير في الحزب الحاكم، وبعد حديث السيد الرئيس مباشرة بجانب أنه مس جانباً مهماً فيه، ولو كان ذلك في ركن آخر من أركان العالم لتم التدقيق فيما جرى من تناقض على لسان إثنين من قيادات الحزب الحاكم في البلاد ومن صناع القرار ومتخذيه، ما يعني أنه يحتوي على قدر من الحساسية والأهمية، وإذا أردنا نحن أن نضع هذا التناقض على الميزان لنرى هل يمكن لشعب لا يهتم بالسياسة بنسبة 80% كما قال غندور أن يمنح شرعية سياسية لأية حكومة بالديمقراطية؟.. سنجد الإجابة غير المفاجئة أنه لا يمكن طبعاً.. إلا في ظل ظروف غير عادية.. وذلك ما تجتهد الحكومة نفيه في كل الفترات السابقة، وتقاتل في كل الجبهات من أجل المحافظة على مكاسب بصم عليها شعب لا يهتم بالسياسة، وإثبات أن الشعب السوداني الذي صوت في الإنتخابات العامة الأخيرة كان هو نفسه الشعب الواعي مفجر ثورات أكتوبر ورجب أبريل وغيرها من ربيع زمان مضى، وقدم نماذجاً لم تقلد إلا في هذه الأيام..!
الشعب السوداني يمارس السياسة بنسب كبيرة، ليس عشقاً لها بطبيعة الحال، ولكن حياته صيغت على ايقاعات تجبره على أن يكن سياسيا حصيفاً يدرك ويتدارك ويحلل بعمق ويتخذ القرارات الصحيحة فيما يتعلق بمصيره، خاصة فيما يتعلق بالحراك الثوري، فهم أبناء وأحفاد أولئك الذين سارت جموعهم لتشهد رفع العلم السوداني في مشاهد ماتزال تبث عبر الفضائيات كواحدة من اللقطات الملحمية لشعوب العالم الثالث، وكذلك هم أبناء من أشعلوا ثورة أكتوبر، وخرجوا في رجب أبريل تدفعهم وطنيتهم فقط للثورة ضد الطغيان، وما من شخص يحمل جنسية سودانية إلا وقد ورث حكايات عن ملاحم قادها آباءه وأجداده في العمل السياسي، ومامن سوداني إلا ويحمل الكثير بين جوانحه من آراء ومشاعر مؤيدة أو متحفظة أو حتى معارضة للوضع السياسي في البلاد، وبعضهم لا يهوى السياسة ولا يمارسها كمجال تفرغ ولكن تأثيرات الأوضاع السياسية على حياته العادية هي التي أجبرته على التعاطي معها بنوع من الوعي لأنه يقف على البرزخ تماماً، وهو أول من يتأثر بالسياسات الحكومية في الجوانب الإقتصادية مثلاً، وحديث غندور عن الثمانين بالمائة ربما يقصد به أن 80% هم أغلبية صامتة من الشعب السوداني لا علاقة لهم بالمؤتمر الوطني، بعد أن أثرت سياساته سلباً في تلك المشاعر، خسر الكثير من أنصاره ممن كانوا يلتقون معه على الأيدولوجيات والشعارات التي رفعها في فجر 1989، وفي مقابلهم حشد من المنتفعين والمتطلعين عشرات الآلاف ممن يعملون ويحرصون على رزق اليوم باليوم ولا يعدون أنفسهم لأية تضحيات محتملة يفتدون بها المشروع الحضاري، وهو الفرق بين أنصار الحزب الحاكم اليوم وسابقاً، بمعنى أنهم خسروا نصف أنصارهم بالإنقسامات الداخلية ابتداءً بالمفاصلة التي وضعت معظم من كانوا حريصين على تطبيق الشريعة الإسلامية في النصف الآخر الذي مضى إلى المنشية مع المؤتمر الشعبي، فتأرجحت مسيرة البقية بعد ذلك ما بين الحرص على السلطة في حد ذاتها، والإضطراب في السياسات الداخلية والخارجية على نحو أجبر الكثيرين على الصمت وعدم التعليق حتى اصبحنا في محطات مهمة جداً من تأريخ الشعب السوداني المحب للسياسة، حيث أن قيادات الحكومة تتحدث كثيراً عن الشريعة الإسلامية وتطبيقها ولكنها لم تطبق، ليس لأنها صعبة أو مستحيلة في بلاد أصبحت في حساباتهم ذات أغلبية ساحقة من المسلمين بعد الإنفصال، وإنما كان السبب في تراجع قناعات بعض قيادات الإنقاذ ممن تبقى بعد المفاصلة بفكرة تطبيقها، وفي ذلك تعضيد لما ذهبنا إليه سلفاً بأن معظم من كانوا حريصين على ذلك ذهبوا إلى المجموعة الأخرى التي انبثق منها الراحل خليل إبراهيم، ولا أحد يستطيع إنكار أنه كان رجلاً ضمن الرجال الذين يهتفون وينادون في شوارع الخرطوم بتطبيق الشريعة الإسلامية، على الأقل لأنها توفر العدل بمعيار رباني، ومن بقي من أنصار المؤتمر الوطني في اعتقادي ليسو من الحريصين على ذلك لأنها ستواجه بعض المظاهر التي حامت حولهم، مثل شبهات الفساد الذي اقتنعت الحكومة أخيراً بإعلان الحرب عليه وبإستحياء مثير للدهشة.. وفي ذات الوقت الذي يتداول فيه الثمانين بالمائة من الشعب المهتم بالسياسة حديثاً هامساً عن أموال واستثمارات قيادات ومنسوبي الحزب الحاكم داخلياً وخارجياً، وإفرازات ذلك وتاثيراته على الإقتصاد السوداني، مايعني أن الشريعة الإسلامية هي القوة الإلهية القادرة على إعادة الطمأنينة والشعور بالعدل والمساواة وإعلان الحرب الحقيقية على مظاهر العنصرية والقبلية التي بدأت تطل برأسها بوضوح الآن والفساد أيضاً، غير أن الحكومة نفسها قد وضعت مصداقيتها على المحك تماماً.. خاصة وأن 23 عاماً من عمرها قد مر بالفعل ولم تطبق الشريعة بل ظلت وعداً فقط يزين الخطابات الجماهيررية وتستدر عطف الشعب.
من مظاهر التناقض التي لاحت في الأيام الماضيات ماورد على لسان الأستاذ مهدي ابراهيم بشأن الأزمة الإقتصادية التي تمر بها البلاد هذه الأيام، وأن الشعب السوداني مطالب بالصمود و(الإنكراب) لثلاث سنوات قادمة، ريثما تتمكن حكومتهم من حل طلاسمها وإعادة الأمور إلى نصابها، وذات الحديث كان قد جاء على لسان رئيس الجمهورية قبل ثمانية أشهر، و في خطاب رسمي وليس تصريحات صحافية، ما يعني أن حديث السيد مهدي ابراهيم لم يأت بجديد بل مدد فترة إقامة الأزمة الإقتصادية لثمانية أشهر أخرى، وهي في عمر الشعب لا تعني شيئاً أمام المصداقية في التعامل مع القضايا الوطنية الحساسة وأمام 23 سنة إنقاذية، ولكن ثمة أسئلة حرة تفرض نفسها هنا على الجميع، وفي مقدمتها السؤال الأكثر إلحاحاً: من هو المطالب بـ(الإنكراب) هنا.. هل هو المواطن العادي الذي تضاعفت عليه أسعار السلع الإستهلاكية عشر مرات بينما مايزال مدخوله هو نفسه، أم منسوبي الحزب الحاكم ممن تكسبوا واستثمروا واستغلوا السطات وباتوا ممن يتحدثون بلغة ملايين الدولارات؟.. وكيف للشعب الذي يعيش أصلاً على (الكسرة والملاح) أن ينكرب؟.. هل يأكل الذرة قبل الطحن والطبخ مثلاً كما تفعل البقال ليوفر بقية المدخلات أم يعجنها بالملح؟.. وكيف تكون مساهمة مليارديرات الإنقاذ في تخفيف المعاناة عن كاهل المواطن البسيط الذي يكد ويشقى للحصول على الكسرة والطماطم؟
في اعتقادي أن الأزمة الإقتصادية هذه تستهدف المواطن المسحوق أصلاً، ومن سواه لن يتأثر بها، وذلك يعني أن الشعب السوداني لن يكون في خندق واحد في مواجهة هذا الغول الطاحن لأنه قد تقسم ما بين ثري يملك ثروات طائلة تكفي لإطعام الشعب كله ليس من أوسط قوت البلد وإنما من موائد الفنادق ومطاعم شارع المطار، وفقير يبحث عن (الفتريتة) ولا يجد.. وفوق ذلك هو مطالب بتحمل المزيد من المعاناة.. مع أن المسؤلية المنطقية تقع على عاتق الحكومة بإعادة توزيع وتقسيم ثروات البلد على المواطن، على الأقل لأن من أولويات الشريعة الإسلامية أن تأخذ من أموالهم صدقة تزكيهم بها.. وأن تعتني بمن هم في قاع المدينة وأن تشيع العدل لكي يحصل الكل على ماهو متاح له بالطرق المشروعة بعيداً عن المحسوبيات والتكسب باستخدام واستغلال النفوذ.


بواسطة : admin
 0  0  1435
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 09:45 مساءً الجمعة 26 أبريل 2024.