• ×

عاميتنا وينابيع الحنان (1)

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
هناك مفردات وعبارات في العامية السودانية، بليغة وحبلى بالمعاني، تلامس أوتار قلبي، لأنها تحمل شحنة من العواطف الصادقة، لا أجدها حتى في الفصحى، وصرت أخشى عليها من الاندثار، بعد أن صارت لهجتنا الدارجة هردبيساً، وبعد أن صارت مفردات وعبارات مثل سجمي وكُر، وبرجاك في محل يوم داك، وا شريري وجيدن جيت، “بلدية”، مثل الكسرة وملاح التقلية، لا تليق بالمتحضرين الـ”كووول”.
وفي نظري فإن السوداني الذي يقول/ تقول “بريدك/ أريدك”، أكثر صدقاً من قائل “بحبك/ أحبك”، بل إن شاعراً مجيداَ كالطاهر إبراهيم، يرى أن الحب شيء، والريدة شيء آخر، كما في قوله على لسان محمد وردي: “حرّمت الحب والريدة”، وهل من كلام عشق أجمل مما قاله كامل عبد الماجد: بريدك يا الزماني محال يعيدك/ لو كلام عيني ما بكفيك تعرفي الريدة/ عاد من وين أزيدك؟ يعني ليس هناك مرتبة أعلى من “الريدة”، وإذا لم تعرف المعشوقة لغة العيون، فـ”الردّة” خسارة فيها.
والمحزن – مجدداً – أن عبارات عامية كثيرة تحمل شحنات قوية من العواطف، صارت في نظر البعض “غير حضارية”، ولا يليق بشخص “راقي” أن يتفوه بها، وكتبت هنا من قبل عن أن مقاييسنا للرقي والتحضر مختلة، ولهذا تسمع كلاماً من شاكلة: نريد لعاصمتنا أن تكون حضارية. كيف يتأتى ذلك؟ وأنتم لم تتركوا من معالمها الحضارية سوى بوابة عبد القيوم والطابية المقابلة النيل، ولو كان هذان المعلمان يحتلان مساحة كبيرة، في موقع يصلح للبيع للحقاً بأمهات (أمات) طه.
ويؤكد سوء فهم الحضارة والرقي (وربطهما بالمعمار والمباني الأنيقة)، أن جميع قنواتنا التلفزيونية، جعلت من برج الفاتح خلفية ثابتة لبرامجها، وهذا المبنى يشبه بيضة ناقصة النمو لديناصور، وحتى لو كان تحفة معمارية فهو لا يخصنا، وليس من حقنا أن نتباهى به، ونجعله شعارًا لبرامجنا التلفزيونية.
أعود إلى شجون عاميتنا المترعة بالمشاعر والعواطف الصادقة، فهل من عبارة حب أقوى تأتيك من امرأة من “ود أمي”، وما أحلاها عندما تصدر من امرأة لا تمت إليك بصلة قرابة، وتقولها من باب التعاطف معك، أو إعراباً عن عرفان بجميل، فهي عبارة بها شحنة هائلة من الحنان والود الصادق. وعندك “كبدي.. مصراني” التي لا تسمعها إلا من امرأة تعزك وتحبك بصدق.
وهاك أيضاً: مرواد عماي/ دخري وغطاي، وكانت الكلمة التي تطربني عندما تخاطبني بها أمي النوبية “يويوني”، وهي عبارة، وليست كلمة واحدة، تفسدها الترجمة “يا بتاع يو/ يمه/ الأم”، وعندما صارت جدة، كان حتى أحفادها غير الناطقين بالنوبيين، ينادونها “يوا” وهي أبلغ دلالات من كلمة “يو” التي تعني “أم” في النوبية.
بل إن كلمتي “يمّه” و”يابا” أوشكتا على الاختفاء من قاموس أهل المدن، وحلت محلهما “ماما/ مامي، وبابا / دادي”، وشخصياً لو قال لي أحد عيالي: دادي، لحرمته من الميراث (عندي مستودع ضخم للمكاوي القديمة التي تحتوي على الذهب والبوتاسيوم والماس وفيتامين سي، والزمرد والساينايد، في المنطقة الصناعية في بحري، ومزرعة لإنتاج وتصدير أبو القنفذ في المناقل)، أما أجمل نداء للأب في السودان فعند أهل دارفور “أبويي”. كلمة فيها تأكيد خصوصية الانتماء.
وباختيارنا لكلمة حبوبة اسماً للجدة، تفوقنا على سائر الشعوب الناطقة بالعربية، في شرح مكانتها في مجتمعنا وقلوبنا، فرغم أن معظم تلك الشعوب تمنح الجدة لقباً يعكس مكانتها في الهرم العائلي (“ستي” مثلاً)، إلا أن الكويتيين وحدهم شاركونا في نسب الجدة للحب وينادونها “حبابة”، ولكن عشاق الاستيراد جعلوا حبوبة “نينه”، وهي مفردة فارسية – تركية (تسللت إلى عاميتنا في عصر ما قبل مهند ونور) . و”يو” هي الأم والكلمة عبارة عن جملة كاملة تفسدها الترجمة “يا حق ماما/ يا مِلك ماما”
وهل هناك كلمة حبلى بالحب والحنين ك”يُمه” لنداء الأم.. بلا ماما بلا مامي
انبشوا أرشيف عاميتنا وهاتوا المفردات والعبارات البليغة التي تلامس الوجدان وتهز أوتار الأضلاع
(ولكن بصراحة جيلنا كان مظلوما فقد كانت الهدهدة “اللولاي” تتم بأغنية: النوم تعال سكِّت الجهال.. النوم النوم بكريك بالدوم.. و”يكري” كلمة نوبية تعني “يقدم رشوة”، وربما لهذا كنت دائما أعاني من مشكلة مع النوم لأن النوم أذكى من أن يقبل الدوم كأتعاب نظير دخول جفون وعيون الطفل لينخمد وينوم)

بواسطة : admin
 0  0  1733
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 01:42 صباحًا السبت 4 مايو 2024.