• ×

أساتذة بدون شهادات

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط


لم تكن جامعة الخرطوم التي نلت منها البكالوريوس، تشبه أي جامعة أخرى في محيطها الجغرافي، وأعني بذلك المنطقة كلها وليس السودان وحده، بل لا تشبه جامعة الخرطوم الحالية رغم أن المباني هي نفس المباني والاسم هو نفس الاسم، ونفس الملامح والشبه، كان الاحترام الشديد متبادلا بين الطلاب والأساتذة، بدرجة أن أساتذة كثيرين كانوا يتآنسون معنا في «قهوة النشاط» وهم يشربون الساخن والبارد، بل إن الرجل الذي كان يدير ذلك المقهى (عمنا السر كوكو رحمه الله) كان في نظرنا في مرتبة الأساتذة، وكان أخانا وأبانا وعمنا وصديقنا، بل كنا نتعامل مع أولاد أهله الذين كانوا يعملون معه (بشير وعبد الغفار وعباس) في بيع المشروبات كزملاء، وهناك أجيال عديدة لا تعرف لماذا حملت الكافتيريا الرئيسية في جامعة الخرطوم اسم قهوة النشاط، فأصل الاسم جاء من سلسلة كاريكاتورات للرسام والشاعر المصري الرائع الراحل صلاح جاهين، في مجلة «صباح الخير»، عن مجموعة من الكسالى يجتمعون في قهوة اسماها «النشاط» لإضاعة الوقت في أمور «فارغة»، وبما أن ذلك المقهى في الجامعة كان ملاذ المزوّغين من المحاضرات فقد أطلقوا عليه الاسم الصلاح جاهيني، وكان أكثر الأساتذة جلوسا في قهوة النشاط هو بروفسر هيكوك عالم الآثار الاسكتلندي الذي كان محاضرا في شعبة التاريخ، وقضى في السودان عمرا طويلا ثم «قضى» أي مات فيه، عندما دهسته سيارة وهو على دراجته الشهيرة في شارع النيل، وطوال تلك السنوات ظل هيكوك مكتفيا ببنطلون واحد، لا أعرف ما إذا كان مصنوعا من نفس المادة التي يصنع منها الصندوق الأسود في الطائرات، وكان البعض يعزو ذلك إلى «البخل الاسكتلندي» ولكن من درسوا على يديه وشاركوا في عمليات التنقيب عن الآثار معه يعرفون انه كان ينفق على عمليات التنقيب من جيبه الخاص.
وكان عمنا حمودة العركي هو «حلاق» الجامعة، وكان أحد معالمها ومعلميها، ولأنه كان صاحب دعابة فقد فبرك الطلاب على لسانه العديد من النكات التي اشتهرت بالحموديات (هذه واحدة سمعتها منه وكان قبل أن يفتح صالونه في جامعة الخرطوم يعمل حلاقا في مدرسة حنتوب الثانوية التي أنجبت جيشا جرارا من نجباء وطننا، وكان الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري طالبا في حنتوب تلك، وبعد ان استولى على السلطة التقى به حمودة وقال له وأنا أروي ما سمعته منه: شنو يا جعفر.. أنت من حتة ضابط بقيت رئيس وأنا عايز أسيب الحلاقة... شوف لي وزارة او أي منصب كويس.. حتى ولو جاسوس)، وكنا نحب عمنا داوود البيرسر bursar (أمين الخزينة الذي كان يصرف لنا الإعانة الشهرية)، وكان ذا ذاكرة تتسع لآلاف الأسماء، وقد يلقاك في أحد الممرات ويقول لك: ليه ما صرفت فلوسك الشهر دا؟ وكان بالجامعة طالب مستهبل شرع في ممارسة البلطجة منذ شهره الأول فيها، وفي ذات شهر، واسمه بعد مكتوب بقلم الرصاص، جاء إلى عمنا داوود منتحلا اسم زميل له كان يعرف أنه نزيل المستشفى ليسطو على مستحقاته، فإذا بعم داوود يقول له: يا فلان.. جيب إشهار شرعي بأنك غيرت اسمك.. وما جعل صاحبنا المستهبل يكاد يغمى عليه هو أنه لم يقف أمام داوود سوى مرة واحدة، وكان ذلك زمان لم يكن فيه الطالب بحاجة إلى بطاقة، فقد كان التعامل بين الإدارة والطلبة يقوم على الثقة.
كثيرون تعاملنا معهم في جامعة الخرطوم كأساتذة لنا وبعضهم كان قليل أو عديم الحظ من التعليم، لأن الجامعة كانت ذات تقاليد راسخة ومتوارثة وحتى كوادرها لم تكن تتغير على مر السنين إلا بالموت، فكان حتى للعمال مكانة خاصة في نفوس الأساتذة والطلاب.


بواسطة : جعفر عباس
 0  0  1992
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 11:57 صباحًا الثلاثاء 14 مايو 2024.