• ×

عصر خالد موسى

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط


تمت ترقية مدير مدرستنا (وادي سيدنا الثانوية) أحمد سعد إلى ملحق ثقافي في بريطانيا، وأتوا لنا بناظر كان ملحقا ثقافيا في بون بألمانيا الغربية هو الأستاذ خالد موسى، وهو سليل أسرة كانت لها الريادة في التعليم للجنسين، وكانت تركبه العفاريت إذا رأى طالبا مما كان يسميه «غادي من اللفة» أي بعد لفة/ التواء مجرى النيل ابتداء من منطقة «الشايقية»، وبعبارة أخرى فقد كان يرى في الطلاب ذوي الأصول الشايقية والنوبية نموذجا للجلافة وفقدان القدرة على «التحضُّر»، وكان يقول ذلك في وجوهنا، ولكننا لم نلمس منه أبدا ما ينم عن احتقاره لنا نحن أبناء شمال السودان الأقصى، بل كان الأمر دعابة، لأن خالد موسى ورغم نشأته في أم درمان رباطابي، والرباطاب قبيلة ألسنتها متبرئة منها، فهم أهل بديهة حاضرة وذكاء لماح ودعابة ساحرة، لا يفوِّتون موقفا من دون أن يعقبوا عليه بأسلوب تسير به الركبان، ولعل أقوى دليل على أنه كان في دواخله إنسان «ابن بلد» كما نقول في السودان عن الشخص الذي يعرف أصول التعامل ويتسم بالكرم، إنه كان مثلا إذا مررت به مساء وهو يسير مع بنتيه يصيح: تعال يا جعفر يا محسي يا متخلف.. سلُم على بنتي سلافة والصغرى نفيسة، وعندما نذهب الى بيته الفخم للمعايدة (وكنا في السنة الرابعة تحديدا ونحن نستعد لامتحان كيمبردج لدخول الجامعات لا نغادر المدرسة في عطلتي عيدي الفطر والأضحى ويبقى معنا بعض المدرسين لمساعدتنا في بعض المواد). المهم كنا فور دخولنا بيته ينادي زوجته: يا صالحة تعالي سلمي على الشباب.. وكان ذا ذاكرة غريبة فرغم أن عدد الطلاب في المدرسة كان فوق السبعمائة إلا أنني أجزم بأنه كان يعرف نحو 600 منهم بالاسم، فقد كان يقضي الأمسيات وهو يتجول بين السكن الطلابي والملاعب يداعب هذا ويشجع ذاك، ولهذا لا تعجبوا إن كنت مازلت أذكر أسماء أفراد عائلته (كان له ولدان لم نلتق بهما لأنهما كانا يدرسان في أوروبا).
وناظرنا خالد موسى هو الذي اتخذ قرارا بفصلي نهائيا من المدرسة ومعي أعضاء اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلاب لأننا قدنا إضرابا سياسيا يطالب برحيل حكومة الفريق عبود العسكرية، وبعدها بنحو عامين كنت أقف مع آلاف مؤلفة في شارع في الخرطوم بحري كان من المفترض أن تمر به الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا (في الحقيقة لم يكن وجودي بسبب رغبتي في رؤية الملكة بل كنت أريد الذهاب الى الخرطوم وفوجئت بحركة المرور معطلة). فوجئت بسيارة فولكس واجن بيتل (خنفساء) تتنحى عن الطريق الرئيسي جانبا، وفوجئت بصوت يناديني بالاسم، فاتجهت نحوه ووجدته ناظر مدرستي السابق خالد موسى الذي طردني من المدرسة واضطررت إلى الجلوس لامتحان الشهادة من المنازل، وسرت نحوه مبتسما مادا يدي لتحيته فإذا به يصيح في غضب: يا حمار تسيب كلية الحقوق (القانون) وتمشي الآداب؟ يعني الرجل كان يتابع أخبار طلابه حتى المغضوب عليهم، وعلى كل حال فقرار الطرد صدر من وزير التربية وتولى هو التنفيذ حتى بعد أن تركوا المدرسة بسنوات، وكان يعرف أنني نجحت في امتحان الشهادة الثانوية والتحقت بكلية الحقوق ثم انتقلت إلى كلية الآداب، وقد أذيع أمر قد لا يعرفه الكثيرون: الفريق الزبير محمد صالح الذي كان نائبا لرئيسنا الحالي البشير وانتقل إلى رحمة مولاه في حادث طائرة دخل الكلية الحربية بإيعاز من خالد موسى الذي كان يعتقد أنه يصلح للعسكرية وقد كان الزبير رحمه الله، وقد كنا في نفس الداخلية شديدي الانضباط والتهذيب، بل إن خالد موسى استثمر علاقاته لإلحاق الزبير بالكلية الحربية رغم أنه من أولاد «غادي من اللفة» الأجلاف!!!


بواسطة : جعفر عباس
 0  0  2138
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 04:30 مساءً الثلاثاء 14 مايو 2024.