• ×

زاوية حادة

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
زاوية حادة

الطوارئ في العلالي بنقالات بلا «بلالي»

جعفر عباس

بلغنا أن أخينا عثمان مصطفى تم نقله الى قسم الطوارئ في مستشفى أم درمان بعد إصابته بجلطة دماغية، ولحقت به هناك وهو يخرج على نقالة من مستشفى ملاصق يحمل اسم البقعة بعد أن تم تصويره بالأشعة المقطعية، وبدا مستشفى أم درمان العتيق مقارنة بالبقعة، جديرا بالنقل الى «النقعة» ليكون مشمولا بحماية مصلحة الآثار إلى جانب المصورات وعموم منطقة البجراوية.. وجدنا الباب بين المستشفيين مغلقا ونصحنا حارس البوابة بنقل مريضنا عبر الشارع العام،.. مريض في غيبوبة يُنقل الى قسم الطوارئ على نقالة عبر شارع ترابي يضج بالحركة والباعة الجائلين، لينتهي به الأمر مصابا بالتايفويد والربو الشعبي والروماتيزم؟؟ طلبت من الحارس بأدب لا يخلو من وقاحة ان يفتح الباب، فظل يجرب نحو عشرين مفتاحا حتى نجح في مهمته، ودخلنا حوش مستشفى أم درمان بالنقالة واضطررنا لتكليف اثنين بتثبيت المريض حتى لا يسقط من على النقالة التي تولى ستة أشخاص دفعها، فقد كان لابد من اجتياز فناء يضم أثاثات مباني «فانية»، فقد كان في كل شبر مطب ودقداق يسبب الانزلاق الغضروفي للشخص السليم الذي يسير على قدميه وحمدت الله ان مريضنا ذاك لم يكن مصابا بكسر في الجمجمة أو تهتك في الدماغ لأن المشوار ما بين المستشفيين كفيل بأن يجيب خبر من يعاني من مثل تلك الإصابات.
وعندما دخلت المبنى المخصص للطوارئ حسبت لبعض الوقت أنني في «جهاز المغتربين»، لدفع الجزية واستخراج الجواز الإلكتروني، بسبب تدافع الخلق في كل الاتجاهات بوجوه ساهمة متجهمة، وكانت المفاجأة هي ان قسم الطوارئ في الطابق الثاني، فسألت حارسا على الباب: وين الأسانسير؟ فنظر إلىّ بازدراء وقال: ده مستشفى ما فندق.. واضطررنا لدفع النقالة «المعسمة»، التي تعاني من شد عضلي، على امتداد أربعة مزلقانات للوصول إلى غرف الطوارئ، ولا أظن أن يدا حانية امتدت لتلك المزلقانات منذ سقوط مملكة العبدلاب، واعتزم في زيارة قادمة للسودان شراء بضعة أكياس أسمنت وبعض الرمل لأقوم بنفسي بتبليطها بالمسطرين، ولي خبرة في ذلك المجال لأن والدي كان يكلفني ببعض أمور «اللياسة» في بيتنا في كوستي قبل كل موسم أمطار.
هناك عدد من الغرف المخصصة للطوارئ في مستشفى أم درمان، وبمجرد دخولها تدرك أن التسمية مصرية وأنها أصلا «الطوارق» وهم بدو الصحراء الأفريقية الذين تريد لهم حكوماتهم البقاء في القرن الثاني عشر: أرضيات متسخة وجدران مشبعة بالكولسترول.. وحال الأطباء أسوأ من حال المرضى.. لاحظت ان ثلاثة منهم يتقاسمون نفس المكتب/ التربيزة لكتابة التقارير.. وكلهم تقريبا دون الثلاثين ومعظمهم نساء، وكان الطاقم الطبي يتحرك من مريض إلى آخر «يفحص ويشخص» ثم: امشوا جيبوا الدوا ده من الصيدلية.. وبحمد الله ما زال العلاج «مجانيا» في أقسام الطوارئ: تِّعتل مريضك بنفسك من قسم إلى آخر وتدفع رسوم التصوير بالأشعة وتشتري الأدوية من الصيدليات، وهذا اسمه علاج مجاني كما المجاعة تسمى فجوة غذائية..سألت مجموعة عن الأطباء عن رواتبهم ولما ذكروا الأرقام قلت لهم: بالتأكيد فإن بائع الأواني البلاستيكية والهتش والكشاكيش أمام المستشفى يكسب في الأسبوع أكثر مما يكسبه الطبيب في شهر، ولكن صبرا فكلها كم سنة وتصبحون اختصاصيين واستشاريين وتهجرون المستشفيات الحكومية وتنسون أحلام خدمة المواطن الغلبان.
وبضمير مستريح اقول ان مستشفى ام درمان بسجمه ورماده ذاك أفضل حالا من غيره من المستشفيات الحكومية في عاصمتنا، وفي مدخل غرف الطوارئ وجدت نحو 16 اسطوانة اوكسجين مليانة «فل»، فوق ما كان متوفرا في كل غرفة، وكانت دواليب المعدات الضرورية في الغرف مفتوحة وليست مغلقة، كما في المستشفى الذي مات فيه 3 أشخاص في يوم واحد بسبب استنشاق ثاني أوكسيد الكربون وتعاطي التغذية الوريدية عبر أنابيب من الكرتون.. ولاحظت أن المريض الذي يدخل قسم الصدمات يجد الرعاية التشخيصية الفورية على أيدي أطباء شباب عيونهم بصيرة وأيديهم قصيرة.. وأقول لأطبائنا الشباب ما قلته لأساتذة الجامعات: قاعدين ليه ما تقوموا تروحوا، فلا أحد يريد لكم ممارسة الطب حسب الأصول المرعية ولا معنى لبقائكم في مستشفيات فات عليها الفوات.. ويا حليل أيام كان الشاي الخفيف المضبوط يسمى «دم الدكاترة».. ودالت دولة الدكاترة وكما قال الشاعر فإن الرَّك الآن على : ضابط بدبورتين أو مغترب سنتين (كحد أدنى طبعا!!)


الراي العام

بواسطة : جعفر عباس
 0  0  2656
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 10:15 صباحًا الإثنين 29 أبريل 2024.