• ×

الصادرات غير النّفطية في السّودان؛ العودة إلى الجذور

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
بقلم قيس الصّديق أحمد محمد إن الحقيقة التي لا تقبلُ جدالاً هي أن قطاع الصادرات غير النّفطية في السّودان هو القطاع الحقيقي الذى يمكن الاعتماد عليه في إعادة التوازن والاستقرار للاقتصاد الوطني. وتأسيساً على ذلك لابد من وضع خطة استراتيجية لتنمية وتطوير قطاع الصادرات غير النّفطية خاصة القطاع الزراعي بشقّيه النباتي والحيواني، دعماً للموازين الخارجية لتغطية الفجوة الكبيرة في الميزان التجاري التي ظهرت منذ يوليو 2011م، والتي نتجت عن فقدان نسبة عالية من عائدات الصادرات بخروج النّفط من الموازنة بعد انفصال جنوب السّودان (راجع، فضلاً، الجدول أدناه للاطّلاع على الأرقام والإحصاءات الرّسمية)، ليُصبح الهاجس الذي يؤرِّق الأجهزة المالية للدولة هو التعرف على أهم المعوّقات أمام زيادة تدفقات النقد الأجنبي من الصادرات غير النّفطية، وعلى رأسها منتجات الثروة الحيوانية والزّراعة والذهب، والأخير بدأت صادراته تحتل موقعاً متقدماً في هيكل الصادرات في الأعوم الأخيرة، إضافة إلى سلع ومنتجات أخرى تُساهم تقليدياً في دعم الميزان التجاري مثل صادرات الحبوب الزيتية، الأقطان، الذرة،... الخ، ذلك أن صادرات الثروة الحيوانية والزّراعة والذهب يمكن أن تكون بديلاً مثالياً لتعويض جزء مقدّر من عائدات النّفط التي كانت أهم مصادر الإيرادات العامة.
الصادرات بالأعوام
الصادرات بملايين الدولارات الأمريكية العام
11.404.30 2010
09.694.05 2011
02.500.94 2012
03.066.05 2013
03.551.00 2014
البيانات والأرقام في الجدول أعلاه استخلصها الكاتب من: إصدارة (العرض المالي والاقتصادي ملخص التجارة الخارجية، جدول رقم 7، صفحة 18، بنك السّودان المركزي - سنة 2014)

الصادرات غير النّفطية؛ الواقع والمستقبل
تلعب الصادرات دوراً رئيسياً في زيادة الناتج المحلي الإجمالي وتساهم في دفع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية خاصة في البلدان النامية، فهي إلى جانب أنها تُساهم بفعالية في تحريك القدرات الإنتاجية الكامنة للمجتمع من موارده الطبيعية والبشرية، تخلق فرصاً للعمالة وبالتالي تساهم في مكافحة حدّة الفقر، كما أنّ الصادرات تشكّل جزءاً رئيسياً من موارد النقد الأجنبي والذي بدوره يُتيح للدول الحصول على السّلع والخدمات التي تحتاجها لتنفيذ برامج ومشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستهدفة.
وقد ظلّت المنتجات الزراعية، النباتية والحيوانية، تشكّل مُجمل الصادرات السودانية حتى نهاية العقد التاسع من القرن العشرين. واتّسمت هذه المنتجات بمزايا تنافسية عالية في الأسواق العالمية بسبب مواصفاتها وجودتها الملائمة لمتطلبات الأسواق العالمية من جهة، وانتظام وتيرة تدفقها لتلك الأسواق من الجهة الأخرى، قبل أن يستحوذَ النّفط على اهتمام الحكومة وينصبَّ تركيزها عليه دون بقية المُنتجات، التي أهمِلتْ وافتقدتْ العناية الاستراتيجية ما أخرجها من قائمة الصادرات الفعّالة التي تدعم الاقتصاد الوطني برغم توفّر إمكانات مهولة للسودان في مجالات الزّراعة والثروة الحيوانية يستطيع بها أن يكسب ميزات تنافسية في أسواق التجارة العالمية. ولكن الذي حدث في العَقدْين الاخرين أنّه قد تدهورَ موقف الصادرات السودانية التقليدية وابتعدتْ العديد من المنتجات، بفِعل السّياسات الحكومية قصيرة النظر، عن المساهمة الفاعلة في دعْم الاقتصاد؛ فـ(إغراء) النّفط، والحروب التي لم تنجح "نيفاشا" و"أبوجا" وما سبقهما وما تلاهما من اتفاقيات، في إيقافها، وما صحِبَ هذه الحروب من موجات متتالية للجفاف والتصحُّر والنُّزوح، وما ترتّب عليها من هجرة الأيدي العاملة بالزّراعة والرَّعي للمُدن، كلّ هذه العوامل كانت وراء التدهور المُخيف في الإنتاج الزراعي خاصة في المشاريع الإنتاجية الكبرى (مشروع الجزيرة، مشروع الرهد، النيل الأزرق... الخ). أضِف إلى ذلك انتهاج الحكومة لسياسات لا تُشجّع الأهالي في مناطق هذه المشروعات وغيرها على التعاون معها أو مع المستثمرين، بسبب عدم العدالة في تأطير علاقات الإنتاج وريع الأرض بين أصحاب الأراضي والمستثمرين.
وبنهاية العقد التاسع من القرن الماضي، ودخول صادرات المنتجات النّفطية ضمن قائمة الصادرات السودانية، سجّلت الصادرات غير النّفطية تراجعاً خطيراً بين الصادرات السودانية، حيث لم تتجاوز نسبة مساهماتها في المتوسط 16.3, % من إجمالي حصائل الصادرات خلال الفترة 2000 - 2013م حسب الإحصائيات الصّادرة عن بنك السودان المركزي.
وعلى الرغم من الإسهامات الكبيرة للصادرات النّفطية خلال السنوات العشر الأخيرة، قبل انفصال الجنوب، في قيام وتطوير الكثير من مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الاعتماد عليها كرافدٍ رئيس لإيرادات الصادرات الوطنية مثّل أهم مُهددات استقرار الاقتصاد واستدامة التوازن الاجتماعي، كما أن الاعتماد كليةً على الصادرات النّفطية قد أضرّ كثيراً بتنمية وتطوير القطاعات الإنتاجية الرئيسية للاقتصاد الوطني، فتدهورت إنتاجية قطاعَي الزّراعة والصناعة وعجَزا ليس فقط عن المساهمة الفاعلة في تحسين موقف الموازين الخارجية، بل حتى عن الوفاء باحتياجات الاستهلاك المحلي.


الصادرات بأنواعها المختلفة خلال الفترة
2011- 2014م
بملايين الدولارات

2014 2013 2012 2011 السلعة
76.441 105.81 954.9 07.300.19 النّفط
21.8 27.7 11.8 27.0 القطن
48.6 134.8 67.1 81.8 الصمغ العربى
204.4 472.4 223.5 223.3 السمسم
814.3 1.048.4 2.158.0 1.441.7 الذهب
1.0 592.9 371.5 294.4 الحيوانات
11.6 15.5 38.1 7.0 اللحوم

*الأرقام والبيانات والإحصائيات في الجدول بعاليه مُستخلصة من نشرات وإصدارات بالموقع الإلكتروني لبنك السّودان المركزي
ضعف البنى التحتية؛ الأساس قبل كل شيء
يعاني القطاع الزراعي من ضعف البنية التحتية ما يُضعف قدراته الإنتاجية. فمناطق الإنتاج الممتدة بطول وعرْض البلاد تفتقر إلى وسائل نقل وترحيل مدخلات الإنتاج والسّلع من مواقع إنتاجها إلى مواقع تجهيزها وموانيء تصديرها، إذ أنّ السكك الحديدية الممتدة خطوطها، ظلت خدماتها في تدهور مستمر جعلها لا تستطيع القيام بدورها في تسيير حركة هذه المنتجات والمساهمة في نقلها، كما أنّ وسائل النقل البرّي تعاني من قلة ورداءة الطرق خاصة في مواسم الأمطار وزراعة المحاصيل.
أما منتجات الثروة الحيوانية فما تزال تفتقر إلى المراعي الممتدة وتعاني من عدم توفر مياه الشرب الصّالحة والرّعاية الصّحية، وأسواقها محدودة مثل أسواق المحاصيل الزّراعية، كما تفتقر للإدارة المنتظمة مما يُضعف عملية إحصائها وتحديد أيسر السّبل للتعامل الإيجابي معها. كما تجدر الإشارة هنا إلى الغياب شبه التّام لمؤسسات وهيئات الإرشاد الزراعي ودورها المهم في توعية المُنتجين، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف معدلات الإنتاجية وبالتالي ضعف إنتاج القطاعات التقليدية إذا ما قُورِنت مع المشروعات التي تستخدم فيها الوسائل التقنية الحديثة.
ولأجل تفعيل أثر الصادرات غير النّفطية في الاقتصاد الوطني فإنه لا بد من عمل استراتيجي مؤسّس يقوم على توفير مقوّمات جيّدة لبناء اقتصاد وطني يعتمد على موارد البلاد الطبيعية والصناعية المُتاحة. ومن أهم الخطوات لتحقيق هذه الغاية العمل على توفير خدمات البنية التحتية وبكفاءة عالية. وتتمثل هذه الخدمات في تشييد الطرق البرّية التي تربط مناطق الإنتاج بمناطق تجهيز وتصدير هذه السلع، وتطوير النّقل بالسّكك الحديدية لاغتنام طاقتها الناقلة الكبيرة وتكلفتها المناسبة، بالإضافة إلى العديد من الخطط المترابطة المتّصلة التي تخدم هذه الأغراض.

الثروة الحيوانية.. نقص القادرين على التمام

يتمتّع السودان بثروة حيوانية ضخمة ويحتل المكانة الأولى بين دول الجوار الإفريقي وكل الدّول العربية من حيث أعدادها ونوعيتها وتحمّلها لكل أنواع المناخات، إلى جانب انتشار المراعي الطبيعية. وبالرغم من عدم توفر المعلومات والبيانات الإحصائية الدقيقة، إلا أن تقديرات وزارة المالية والاقتصاد الوطني المنشورة في العام 2013 تُشير إلى أن حجم هذه الثروة يبلغ 140 مليون موزّعة بين مناطق السودان المختلفة بالتركيز على أقاليم: (كردفان، دارفور، كسلا، القضارف، النيل الأبيض والجزيرة). وتمتاز الثروة الحيوانية في السّودان بجودتها وقبولها لدى جمهور المستهلكين بالأسواق المحلية والعالمية لاعتمادها على المراعي الطبيعية مقارنة بمثيلاتها في الدول الأخرى المُنتجة لهذه الثروة.
بيدَ أن العائدات الاقتصادية والاجتماعية لقطاع الثروة الحيوانية، بالرغم من كِبر حجمه وتوفيره لفرص عمل لكثير من السكان، لا تزال ضعيفة، الأمر الذى يتطلب جهوداً جبارة لتحويل أصول هذا القطاع الحيوي إلى أصول مُنتجة اقتصادياً، ونعني بذلك التغيير التدريجي للنّمط الحياتي والاجتماعي والإنتاجي للعاملين في هذا القطاع، وتحويلهم إلى مُنتجين حقيقيين بالمفهوم الاقتصادي لهذا التعبير. كما أنّ الدولة وعلى مدى العقود السابقة، لم تُولِ هذا القطاع الاهتمام الكافي لتحريك قدراته الكامنة وزيادة نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي دعماً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ما جعل مساهمة هذا القطاع في دعم الموازين الخارجية للبلاد هامشية بل ومتواضعة جداً بالنسبة لما يُنتظر منه كأحد مُنتجات الصادرات غير النّفطية المُهمّة، ذلك أن نسبة مساهمة صادرات الثروة الحيوانية في الصادرات الإجمالية تبلغ أقل من 3% حسب آخر إحصائية صادرة عن البنك المركزي.
وحيث أنّ قطاع الثروة الحيوانية يشكل جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي للبلاد، وأنّ عائدات صادراته لا تتناسب ومساهماته في كل من الناتج المحلي الإجمالي وعائد الصادرات غير النّفطية، فإن أيّ جهد يُبذل لتحريك جمود هذا القطاع سينعكس إيجاباً على أداء الاقتصاد الكلّي بصفة عامة والموازين الخارجية على وجه الخصوص.

الذهب.. بباطن الأرض كنوز
أصبح قطاع التنقيب عن الذهب من القطاعات الجاذبة في الاقتصاد السوداني، حيث تمّ التوقيع على عشرات الإتفاقيات للتنقيب خلال الأعوام القليلة الماضية؛ حصلت بموجبها الكثير من الشركات الوطنية والأجنبية على ترخيص للعمل في مجال التنقيب عن الذهب في أقاليم: الشمالية، نهر النيل، البحر الأحمر وشمال كردفان. كما أن هنالك أيضاً قطاعاً عريضاً من المُنقّبين الأهالي الذين يمثّلون شريحة لا يُستهان بها، حيث أن آخر الإحصائيات أوردت أنه بنهاية العام 2013م بلغَ عدد العاملين بهذا القطاع سبعمائة وخمسين ألف مواطن، وبلا شك تضاعفَ هذا الرقم خلال هذا العام.
ويبدو التحدي الأكبر الذي يُواجه الدولة في هذا القطاع هو كيفية التصدّي لظاهرة التهريب التي شهدت نشاطاً متزايداً لهذه السّلعة المهمّة والحيوية، بل إن التقديرات تُشير إلى أن ما تمّ تهريبه في العام 2013 لا يقل عن 50% من الكمية المصدّرة عبر القنوات الرسمية، ما يستدعِي انتهاج سياسة صارمة ومباشرة لمحاربة تهريب هذه السّلعة بالتنسيق بين وزارة المعادن وبنك السودان المركزي وسُلطات الأمن الاقتصادي لتكوين آلية فاعلة لمحاربة تهريب الذهب إلى الخارج، وتنظيم التنقيب الأهلي والإشراف عليه وسَن تشريعات لتقنين عملية التنقيب الأهلي بصورة تحفظ حقوق كافة الأطراف، وتعمل على تنظيم عملية تصدير الذهب إلى الخارج.
التخطيط.. والرؤية؛ هنا يكمُن الحل
إن من أبجديات النظريات الاقتصادية الواقعية تنويع المحفظات والبدائل وتمكين الخيارات المتعددة كنهج لإدارة الاقتصاد بطريقة علمية تحقّق له الاستقرار بالأساس، وتضمن بشكل كبير مقدرته على مجابهة ما يطرأ من ظروف وأحوال وما يستَجِد في مُحيطه المؤثّر من تغيُّرات وتبدّلات. غير أنّ الدولة لم تفطِن طوال عقدين من الزمان إلى هذا الأمر البَدَهي، واستحوذَ تصدير النّفط على اهتمامها بالكامل، ما تركَ آثاراً وخيمة على بقية القطاعات الإنتاجية التي تراجعت قيمتها الاقتصادية بشكل مُخيف، وانكشفتْ للدّولة، بعد انفصال الجنوب وتوقّف إيرادات النّفط، سَوْءات انعدام التخطيط، لتستفيق على واقعٍ تُضطرّ معه الآن للعودة مرّة أخرى إلى الجذور؛ حيث الموارد الطبيعية التي يذخر بها السّودان، في القطاعات الزّراعية والحيوانية، التي تُعد، بعكسِ النّفط، مواردَ لا تنضب، إذا ما أحْسِنَ استغلالها وتوظيف ثرواتها توظيفاً علمياً صحيحاً.
qais.shahata@gmail.com



بواسطة : admin
 0  0  1817
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 05:42 صباحًا الجمعة 29 مارس 2024.