• ×

عثمان ميرغني يكتب : الظلمة الجدد !

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية قاضٍ سابق؛ عمل في بعض محاكم العاصمة لأكثر من 15 سنة، كان يحكي لي ذكريات عمله القضائي، ومن بين ثنايا القصص انزلقت منه عبارة عفوية قال (خلال 15 سنة من عملي في القضاء الجنائي، لم أحاكم قط مُجرماً حقيقياً!)..

أذهلتني الجملة العابرة فاستوضحته؛ ماذا يقصد بأنه لم يحاكم (مجرماً حقيقياً قط).. فقال لي.. (الذين يرمي بهم القدر أمامي لم يكونوا هم المجرمين الحقيقيين.. صبي سرق موبايل بعد أن أنهكه الجوع.. مراهق شُرِّد من أسرته.. وهكذا..).

القاضي السابق؛ قال لي، صحيح أنها كلها جرائم لكن الفاعل فيها هو عين المفعول به.. فالفاعل الحقيقي ضمير مستتر تقديره هم..

بينما يمثل أمام القاضي مُتهمٌ بسرقة بضع عشرات أو مئات الجنيهات.. ويدان فيستحق عقوبة بالسجن لمدة طالت أو قصرت تكاليفها تدفعها الحكومة من حر مال الشعب بآلاف أضعاف ما سرق.. يفلت من العقاب – بل يأمنه تماماً – من يسرق مئات الملايين من الدولارات..

وأية سرقة؛ جريمة مزدوجة يسرق فيها المسؤول مال المستشفى فلا يجد المريض الفقير العلاج فيموت مجاناً.. أو يسرق المجرم – الحقيقي – أموال المشروع العام فينهار ويفقد العاملون وظائفهم وتتضور أسرهم جوعاً.. فيتلقفهم الشارع المظلم ليقتات بشرفهم.

وهكذا؛ سلسلة متراكبة المجرم الأصلي هناك في بيته المنيف والياً، معتمداً، وزيراً، مديراً، أو متنفذاً بسلطة خفية لا أكثر، محروساً بقانون (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه..) بينما المجرم المتلبس هو مجرد فرد من المجتمع داسته سنابك المجرم الحقيقي وهي تختال بحصاناتها..

وراء كل مجرم متلبس بجرمه، مجرم أكبر منه ممنوع اللمس.. الوزير الذي استغل منصبه ليثري ويمتلك الصافنات الجياد والقصور الفواره، لم يسرق مال الدولة فحسب، بل دمّر وأتلف حياة ملايين آخرين.. فهو المجرم الحقيقي الذي لا تطاله سلطة ولا تقربه تهمة.. بل على العكس، يسير بين الناس مختالاً فخوراً بالجاه الذي سرقه.

الرسول صلى الله عليه وسلم كان دقيقاً في تعبيره فقال (إنما أهلك..) أي أن غياب (دولة القانون) يهلك الدولة بسكانها.. وصلاح الحال يبدأ بصلاح ميزان العدالة التي يجب أن لا تُفرِّق بين عَظيمٍ وحَقيرٍ..

كل وزير جديد انضم للحكومة الجديدة.. كل نائب جديد انضم للبرلمان هو شريك في هذا الظلم والجرم مرتين.. مرة بما يأخذه من مال الشعب الفقير ثمناً لجاه المنصب.. وأخرى لو صمت على الظلم ورضي من الغنيمة بالسكوت المدفوع الثمن..

ظالم؛ كل من يصمت على الظلم.


بواسطة : admin
 0  0  1598
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 11:13 صباحًا الأربعاء 24 أبريل 2024.