• ×

الغرامة المالية لشارب الخمر بين الجباية والهداية

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
السودانية ثلاثة تعليقات ساخرة استمعت إليها في مواقع مختلفة انصبت حول الغرامات المالية التي تفرض على متعاطي وصانعي الخمور البلدية، التعليق الأول كان بمحكمة بأم درمان، وذلك حينما أصدر القاضي حكماً على متعاطي خمور بالجلد والغرامة مائة وواحد جنيه، وفي حالة عدم الدفع السجن لمدة شهر، ولم يجد المتعاطي الشاب غير أن يمتثل لقرار القضاء بخضوعه للجلد وتسديده مبلغ الغرامة، إلا أنه وحينما خرج من المحكمة قال بصوت جهير "ما قلتوا حاكمين بالشريعة، قروش الخمور بتودوها وين "، والشاب يبدو في اعتقاده أن هذا مال "حرام" لأنه جاء من غرامات فرضت على مشروب محرم شرعاً.

"قروش مرايس سااااكت"

في طريقي إلى مدينة سنجة كنت أستغل عربة صغيرة سعتها أربعة ركاب تحركت من سوق سنار، وهذا أتاح لنا تبديد رهق السفر بالتعارف وتناول موضوعات مختلفة وحينما شارفنا على مدخل سنجة الشمالي لاح لنا عدد من المباني حديثة الطراز ومن ضمنها مبنى فخم يتبع للسلطة القضائية، حيث اعتبره الركاب أنه قد أضاف بعداً جمالياً على المدينة، غير أن رجلاً خمسينياً كان يركب في المقعد الأمامي علق ساخراً "قروش مرايس سااااكت"، وحديثه هذا اشتففنا منه أن اموال هذا المبنى جاءت من الغرامات التي تفرض على متعاطي وصناع الخمور، ورغم أن هذا التعليق ربما كان بعيداً عن الواقع إلا أننا ضحكنا بسببه، ليتحدث شاب كان يجلس على يساري مشيراً إلى أن الغرامات التي يفرضها القضاة على من يتعاطون الخمور البلدية ويتاجرون فيها ليست ثابتة وأنها تخضع "لمزاج" القاضي، قلت له دعنا نقل تقديرات القاضي وليس "مزاجه" ، إلا أنه أظهر تمسكاً بهذه المفردة، وأشار إلى أن صديقه الذي يتعاطى الخمر تم إلقاء القبض عليه مرتين في الخرطوم وسنجة، وجاء الحكمان مختلفان، حيث تم تغريمه في محكمة ببحري مبلغ مائة وواحد جنيه، أما في سنجة فقد فرضت عليه غرامة تبلغ 500 جنيه، قلت له ربما تردد صديقك هذا كثيراً على القاضي الذي بدوره أراد ردعه حتى يترك تعاطي الخمر السبب المباشر في مضاعفة الغرامة المالية عليه، إلا أنه نفى ذلك وكشف أن صديقه تم القبض عليه مخموراً في سنجة مرة واحدة.

وذات الحديث الذي جهر به شاب في المحكمة بأم درمان وجهه نحوي محدثي بالعربة التي أقلتنا إلى سنجة حينما قال:" هسه القروش البشيلوها من السكرجية ومن النسوان البسونها، حرام ولا حلال"، ولأن من قال الله أعلم فقد أفتى لم أجد غير هذه الإجابة .

القانون الجنائي ومواد الخمر

نشير هنا إلى أن القانون الجنائي السوداني حدّد في الفصل الثاني مواد تتعلق بالإزعاج العام (77)، وشرب الخمر والإزعاج (78)، أما المادة (79) فتتعلق بالتعامل في الخمر، ويشير القانون الجنائي إلى تعريف الغرامة التي ترك تحديدها للمحكمة التي تقدرها بالنظر إلى طبيعة الجريمة المرتكبة وقدر الكسب غير المشروع فيها ودرجة مشاركة الجاني وحالته المالية، وأشار القانون إلى أنه يجوز للمحكمة أن تأمر بدفع الغرامة كلها أو بعضها تعويضاً لأي شخص متضرر من الجريمة ما لم يحكم له بالتعويض استغلالاً، وأنه عند الحكم بالغرامة يحكم بالسجن عقوبة بديلة عند عدم الدفع، فإذا دفع المحكوم عليه جزءاً من الغرامة تخفض مدة السجن البديلة بنسبة ما دفعه إلى جملة الغرامة، وأكد القانون سقوط الغرامة بالوفاة، أما فيما يتعلق بالجلد فقد شدد القانون الجنائي على أنه باستثناء جرائم الحدود لا يحكم بعقوبة الجلد من بلغ الستين من عمره أو من يشكل الجلد خطراً على سلامته وصحته، وإذا سقط الجلد يتم فرض عقوبة بديلة، ومنح ذات القانون المحكمة حق المصادرة وهي أيلولة المال الخاص إلى ملك الدولة بدون مقابل وتعويض، وكذلك حق الإبادة.
على أرض الواقع
سعيت ميدانياً لمعرفة أعداد الذين يتم القبض عليهم من متعاطي وصانعي الخمور، فسجلت زيارة لأربعة من أقسام النظام العام بمحليتي أم درمان وكرري بحثاً عن متعاطي خمر تم إلقاء القبض عليه، في أقسام الكبجاب والعاشرة والربيع والثمانية وثلاثين أم بدة، فإن رجال الشرطة ينظمون "كشات" راتبة على أماكن بيع وتعاطي الخمور بالأحياء والأسواق، وعلمت من إفادات رجال شرطة تجاذبت معهم أطراف الحديث أن الأعداد لا يمكن تحديدها بشكل قاطع، وكشفوا عن أن أيامًا محددة في الأسبوع أبرزها الخميس تشهد إلقاء القبض على أعداد كبيرة من الذين لهم علاقة بالخمور، حيث يتم إيداعهم حراسات الأقسام لعرضهم في اليوم الثاني على القضاء بعد تدوين بلاغات ضدهم، والقاضي بدوره يوقع عليهم العقوبة، حيث يعجز كثيرون منهم عن دفع الغرامة التي تفرض عليهم فيتم ترحيلهم الى السجون المختلفة بالعاصمة مثل سجني أم درمان ودبك، وعندما تمتلئ سجون العاصمة يتم ترحيل المحكومين بالغرامة من متعاطي الخمور إلى سجون الولايات مثل الحصاحيصا وسنجة ومدني، وأوضح رجال الشرطة أن الغرامة تندرج في إطار الحد من التعاطي إلا أنهم يرجحون عدم تأثيرها في خفض الأعداد التي يلقون القبض عليها أسبوعياً وشهرياً، غير أن شرطياً أكد أن الغرامة أسهمت في الحد من التعاطي وقال: إذا لم تحد بصورة مباشرة فإنها أسهمت في تخفيف أعداد المتعاطين في أماكن صناعة الخمور، وذلك بلجوء كثيرين إلى شراء الخمر ثم الذهاب إلى منازلهم خوفاً من إلقاء القبض عليهم وفرض القضاء لعقوبة الغرامة.

مع "السكرجية"

ولمعرفة رأي من يطلق عليهم شعبياً اسم "سكرجية " جلست إلى ثلاثة منهم، اثنان كانا في كامل وعيهما، وثالث قال إنه احتسى كباية فقط من العرقي، وهو المشروب المسكر الأشهر بالسودان ويصنع من البلح، الأول وهو شاب يعمل بالسوق الشعبي أم درمان قال إن شرب الخمر ابتلاء في المقام الأول وإن الهداية من رب العباد، ويؤكد أنه حاول كثيراً ترك احتسائها إلا أنه في كل مرة يغيب عنها لأشهر يعود إليها مجددً، رافضا الاتكاء على شماعة الضغوط الحياتية تبريرا لشربها، وقال إن كثيرين أوضاعهم المادية جيدة إلا أنهم فشلوا في ترك الخمر وآخرين تاب الله عليهم، ورأى أن الغرامة وسيلة من أجل غاية وهي إجبار المتعاطين على ترك الخمر، لأن الجلد وحده ليس كافياً، ويلفت إلى أن الكثير من أصدقائه المتعاطين يدفعون الغرامة ثم يعودون مجدداً إلى شرب الخمر، وأضاف ضاحكا: "إذا ماشي "الطرمبة" أهم حاجة تشيل قروش الغرامة، أما الشاب الذي كان قد احتسى "كباية " من العرقي ــ كما أشار ــ فقد صب جام غضبه على الغرامة التي اعتبرها مجرد باب لجباية الأموال، وقال إنه تم القبض عليه ثلاث مرات، وفي كل حالة يتم تغريمه مبلغاً مختلفاً، وأخرها ألف جنيه، ورأى أن الكثيرين يلجأون لتعاطي الخمر لنسيان همومهم بعد أن ضاقت عليهم الحياة، وطالب بإيقاف الغرامة والبحث عن بدائل أخرى لإجبار شارب الخمر على تركها، ورأى أن التوعية والإرشاد بالحسنى أكثر نجاعة من القوانين الرادعة، ولفت إلى أن دراسة غربية كشفت عن أن الجلد الوارد في الشريعة بات وسيلة يتم استخدامها لعلاج المدمنين في عيادات خاصة، وأضاف:"بس نحن ناسنا فالحين في الغرامات، والكفار عرفوا أن عقوبة الجلد لمتعاطي الخمر فيها أسرار وهسه بعالجوا بيها الناس بدل تغريمهم أو سجنهم".

عقوبات تقديرية

سألت القانوني آدم أبكر وهو من المحامين المختصين في الجرائم الجنائية المختلفة، عن عقوبة شرب الخمر والغرامات التي تفرض على المتعاطين، فأشار إلى أن شرب الخمر جريمة يعاقب عليها القانون استناداً على الشريعة التي حددت أربعين جلدة للمسلم ونصفها لغير المسلم، ويلفت إلى أن الغرامة أو السجن عقوبات تقديرية منصوص عليها تركت مهمة تحديدها للقاضي الذي من حقه أن يرسل المتعاطي إلى السجن أو أن يفرض عليه غرامة مالية بالتزامن مع عقوبة الجلد، ويوضح أن الغرامة تفرضها ظروف محددة ومنها أن يكون الشخص المتعاطي قد تم عرضه على القاضي أكثر من مرة، وأضاف: عندما يعمل القاضي على تشديد العقوبة على المتردد على المحكمة كثيراً بجريمة شرب الخمر فإن هدفه ردعه لتركها.

غير أن القانوني آدم أبكر يعترف بأن الغرامة لم تسهم في خفض نسبة الذين يتعاطون الخمر، ويكشف أن الكثير من المتعاطين حينما يتوجهون نحو مواقع صنع الخمر يحملون معهم أموال الغرامة تحسباً للقبض عليهم وعرضهم على القاضي، ويكشف عن أنه سأل متعاطين لماذا لا يحملون الخمر إلى منازلهم، أكدوا له إن اكتمال "الكيف" لا يتأتى إلا بشرب الخمر في موقع صنعها وهو ما يسمى "بالقعدة"، ورأى أن عدم تأثير عقوبة الغرامة في تراجع نسبة المتعاطين يعود إلى الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد والتي أجبرت الكثير من النساء الفقيرات والمعدمات على صناعة الخمور، ويعتقد أن المعالجات كان يجب أن تذهب ناحية توفير فرص عمل شريفة لهن في إطار محاربة هذه الجريمة، مؤكدًا أن الخمر أيضاً باتت ثقافة لدى الشباب.

ويكشف القانوني آدم أبكر عن أن الغرامات المالية التي تفرض على المتعاطين يتم توريدها في خزنة السلطة القضائية، ويرى أن مثل هذه الأموال تعتبر خطيرة حينما تدخل خزانة الدولة وأنه كان يجب أن توجه نحو صناديق محددة معنية بمعالجة المدمنين من شرب الخمر.

لا علاقة لها بالدين

بالمقابل يؤكد القاضي السابق، الدكتور عبد الله علي إبرهيم، عدم ورود نص لعقوبة حدية في القرآن للخمر، ويلفت في حديث لـ(الصيحة) الى أن العقوبة التي يتم تطبيقها والمتمثلة في الجلد هي اجتهاد وليس نصاً جاء في القرآن والذي يكشف عن أنه حمل بين آياته الكريمة عقوبات حدية لعدد من الجرائم مثل الزنا، والسرقة، والحرابة والقذف، ويؤكد عدم إيراد عقوبة للخمر، ويلفت إلى أن الأربعين جلدة التي تم تثبيتها بوصفها عقوبة لمتعاطي الخمر ظهرت في عهد عمر بن الخطاب ومن ثم باتت قياساً ليتعظ متعاطي الخمر، ويؤكد أن الغرامة بدعة ظهرت في عهد الإنقاذ وغير موجودة حتى في المملكة العربية السعودية التي تطبق الشريعة في جرائم الحدود، كما أنه وــ الحديث للقانوني عبد الله علي إبراهيم ــ لم تكن موجودة في عهد الرئيس الراحل نميري، ويشير إلى أن المشرعين حينما قرروا عقوبة الغرامة أشاروا إلى أن سكر المسلم في مكان عام يتأذى منه المسلمون لذا يجلد وتفرض عليه تعزيرياً الغرامة المالية، غير أن دكتور عبد الله يبدي تعجبه من عدم فرض الغرامة على المسيحيين باعتقاد أن دينهم لا ينهي عن الخمر التي يؤكد أنه تم تحريمها في التوراة والإنجيل، ويعتقد الدكتور عبد الله أن عقوبة الغرامة وللمفارقة تبلغ مائة جنيه، وأن المتعاطي الذي يعجز عن دفعها يتم الزج به في السجن لتصرف عليه الدولة 750 جنيهاً في الشهر، وكشف عن أن أموال الغرامات تورد لصالح الشرطة القضائية تذهب نسبة منها حوافز للقضاة، ويؤكد أن الغرامة التي تفرض على من يشربون الخمر ليست من الدين في شيء، ويرى أن العقوبة المثالية ليس تغريم متعاطي الخمر بل تحويله الى دور تخصصها الدولة لمعالجة الإدمان.
صديق رمضان ـ الصيحة


بواسطة : admin
 0  0  5668
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 11:13 مساءً الجمعة 19 أبريل 2024.